ثنائية الرغبة والخوف


عودة للتدوين أخيرًا، منحتها لي فرصة نوم ساعات كافية والنهوض مبكرًا بالشعور باليقظة والهدوء وانسيابية شوارع الرياض والمقهى الذي أحب. عنوان التدوينة أضاء بداخلي فجأة وبدت التوكيدات الذاتية بأنه الموضوع الأنسب لما أود الثرثرة عنه.

بعد سنة من انتقالي للرياض، بدأت أتأقلم مع فكرة أنني تلقيت الكثير وحان الوقت لأحدد ما أريد. أعني بالتلقي هو التعرض للكثير من المدخلات من خلال عيش التجارب الاجتماعية أو الثقافية أو حتى النفسية مما يؤدي إلى تراكمها في المحصلة الذاتية، وهنا تشعر بامتلائك وحلول موسم الفلترة وتحصيل المدارك من كل تلك المدخلات واتخاذ القرارات نحو النمو، فأنا أؤمن دائمًا وأبدًا بأن الغاية من التجارب هو النمو الدوري وتشكيل الواقع تبعًا للصورة الذهنية التي تتسع مع مرور سنوات حياتنا بشكل مستمر.

أقول ذلك لأن قرار الانتقال بحد ذاته جاء كمحصلة ذاتية بعد خوض تجارب سابقة كثيرة تمنحك البصيرة والرؤية التطلعية التي تجعلك تميل للنمو والتغيير والتحسين وتجنب تكرار التجارب بذات الدروس الجميلة أو القاسية. ولكن بعد أن تفعلها وتتخذ ذلك القرار تبدأ في مرحلة جديدة من محاولات فهم ما يحدث والسعي لتشكيل واقعك وطبيعة استقرارك وكيفية عيش هويتك بما يتوائم مع المعطيات أو المسؤوليات المستجدة.

في هذه المرحلة تحديدًا والتي امتدت لسنة بالنسبة لي، كانت هناك رغبات للنمو تطفو على السطح، لكنها تعاود الانغمار مجدّدًا كونها لم تجد من يصطادها ويهيء لها المناخ المناسب بفعل أسباب عدة كالانهماك في العمل أو الإنهاك منه أو التردد الذي لا يرفض الرغبة لكن يؤجلها.

فتولد الرغبة ثم تطفو، ثم تسارع الانغمار بفعل الأعذار التي أوقن بكامل إدراكي بأن جذرها الأولي هو الخوف، ولطالما ألبسنا هذا الخوف رداءات أكثر أناقة أو أكثر إقناع لضميرنا، كعدم امتلاك الوقت أو انتظار الوقت المناسب أو لحين ظهور معجزة إلهية أو يقظة ذهنية تداهمنا، لكن متى؟ بعد فوات ذلك الوقت بالكلية!

وهذا يجعلني أتمسك أكثر بقناعة أن أفضل القرارات هي التي نقدم عليها باختيار وليس كتحصيل حاصل، رغم أن الحالة الثانية تؤتي نتائجها الفعالة أحيانًا، لكن الاختيار يحفزك على الإكمال والإصرار مهما كانت الأوضاع التي تتكشف لنا بعدها. فكونك تقول نعم أرغب، تختلف عن عدم قولها. فتشعر بأن التصريح بالرغبة يهب حدسك كفًّا حانية تشد بقبضتها عليك وتأخذ بك نحو التجربة وتذكرك بين الفينة والأخرى أنك تسير في الطريق الصحيح لأن حدسك هو أصدق صوت فيك. هذا لا يعني بأن أي قرار حدسي يؤول بنا لنتائج مرضية، فالرغبة الذاتية لا علاقة لها بضمان ظروف ونتائج التجربة الفعلية، بالضبط كما أن الاستخارة لا تنفي الاستشارة، لكن الخوف يقمع الرغبة من الأصل.









قبل يوم شاهدت فيلم (A Beautiful Life)، ولفتني هذا المشهد حين واجهت المنتجة الموسيقية ليلي رفيقها إليوت بهذا التصريح: "أنت وحدك في هذا العالم لأنك لا تجرؤ على مواجهة الدنيا"، ليدرك أن ما يمنعه من النمو واستثمار موهبته نحو الشهرة والثراء هو خوفه المنعكس على هيئة حمايته لقاربه المتواضع ومهنته البحرية ووفائه لصديقة المقرب. الخوف ليس بالضرورة أن يكون خوف من التجربة ذاتها بل قد نشعر بأننا أهل لها، لكن قد يكون خوف من خسارة ما قبل التجربة، كبساطة حياتنا وبراءة ذواتنا ووفائنا لعلاقات بداياتنا بل وفائنا حتى لشخصياتنا، لأن النمو هو بالضبط يشبه تخليك عن قشرة والسماح لأخرى بالظهور.

مع مجريات الفيلم، يظل إليوت يشق طريق الفن والنجاح وهو لا يزال متمسكًا بماضيه بكل ما أوتي من قوة برغم محاولات من حوله كالمنتجين الموسيقيين ومديره في مهنته البحرية لمساعدته، حتى واجه اعتراضهما معًا، وخسر جزءًا كبيرًا من حياته القديمة بطريقة لم يتوقعها ولم يخترها كاحتراق قاربه وتلاشي مقتنيات والديه الراحلين الذي يتذكرهم من خلالها وخيانة صديقه الغيور من نجاحاته رغم محاولاته لإرضائه. مما جعل إليوت يظل مشكّكًا بكل نجاح يحققه ويرى بأن هذه التجربة سببًا لخسارته أغلى ما يملك.

الجدير بالذكر أن إليوت كان بإمكانه اختيار ما يرغب به وإيمانه التام بأن احتمالات ما سوف يخسره سيكون استثمار في رغبته، ولا يتخذ وضعية المقاومة والتضحية التي ستتعارض بين هنا وهناك لتفضي به إلى الندم أو الشعور بعد قيمة ما وصل إليه. فالخسارات الاضطرارية نحو رغباتنا الصادقة مكاسب، وما سينتهي وقتها من حياتنا كان يجدر به أن ينتهي، باختصار لأنه سوف يأتي الأفضل والمشابه لنسختنا الجديدة والملائم لتشكيلة قشرتنا الجديدة. فالصديق الذي لم يبارك نجاح إليوت وآذاه كان يجدر به أن يفعل ذلك ليشفي غله ويرحل ويختفي من حياته، فيهبه فرصة النمو، والقارب بما فيه (الذي شكل في إليوت شخصية ذات حنين وتعلق شديد وحزن لطفولته ولماضيه) لم يكن ليجعله يعزم على التغيير لولا تلاشيه بفعل الحريق. وهكذا، إن لم نختر التغيير، فسنتألم من تغيير ظروف الحياة طواعية كونها مجبولة على ذلك، لكن السؤال هنا هل كان إليوت يرغب بذلك النجاح أصلًا؟!

الرغبة والخوف ثنائية متلازمة، ما إن تُخلق الأولى حتى تقمعها الثانية، مع تبرير ذلك بالحماية والرعاية. لكنني حين استوعبت ذلك، عزمت حقًّا على العودة لصوت القلب والنية الصادقة (فالنية الصادقة تقوم بمهمة محاكمة رغباتنا كون ليست كل الرغبات في صالحنا أو تصب في هدف النمو)، ثم العزم مهما كانت المخاوف والمشككات أو المشتتات، فالقلب لب العقل، والنية مطية، واستفت قلبك خير دليل، ودعوات الجدات بــ"عساك كل ما نويت قويت" لم تكن عبث. كل ذلك له بُعد سيكولوجي بأنه يصعب على الإنسان ضمان المجهول في رغباته، لكن في نفس الوقت لا يمكن له أن يسلّم نفسه لمخاوفه بنية حمايته.

تعليقات

  1. تدوينة رائعة جدًا تذكرنا بالواقع وكيفية التعامل معه. استمتعت بالقراءة! شكرًا لك.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المرأة من منظور "زمّليني"

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

مواليد التسعينات | بين القناعات والتحديات