أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس
هذه التدوينة تجربة ذاتيّة أشارك فيها خلاصة الأشهر
الماضية التي عشتها مع محاولات جادّة وعميقة لفهم حقيقة نفسي أكثر، أكتبها وكلّي
أمل بأن تلامس أي فرد ينوي (بكل صدق) الإجابة على تساؤلاته إن كان يعيش حقيقته أو
لا في فترته العمريّة الحاليّة، فطرح مثل هذا السؤال بصدق هو شرارة الغاية، والسعي
للإجابة عليه خير وسيلة، دونكم خطوات تفيد في معرفة حقيقة النفس، رتبتها حسب
التدرّج الزمني والمرحلي الذي عشته، وبإمكانكم قراءتها كأجزاء في أكثر من جلسة
لاحتوائها على وسائل عمليّة تطبيقيّة تحتاج لوقت.
لا تقرأها إلا
إن كنت مقتنعًا وجادًّا في معرفة نفسك أكثر، وتكون راغبًا فعليًّا بأن يكون القادم
من حياتك يشبهك أكثر، تنسجم معه أكثر، وحقيقي أكثر.
الخطوة الأولى| انتبه لشعورك بالكركبة:
في أواخر شهر فبراير الماضي كنت أقضي أيامي في إجازة من
العمل، كانت تلك الإجازة مختلفة بعض الشيء، بدأت بشعوري بالكركبة وبعدم الانسجام
مع التفرغ بعد الزحام وعدم التأقلم مع ذهن يخلو فجأة من مهام آليّة لا تكف عن
الإلحاح لأشهر متتالية، القفز مباشرة للمتعة والإنجازات المفيدة ومضاعفة الدوبامين
لم يكن حلًّا، ففترة العمل الطويلة كانت أشبه بتمرين رياضي قاسي لعضلة لا يحق لي
أنا أطالبها الآن بأن تمارس رقصة الباليه بخفة وانسيابيّة بشكل مباغت. بكل أمانة
شعرت بالغربة مع نفسي.
تلك الكركبة
وتشوّش الأوليّات في فترة ما من الحياة قد تحدث لكوننا ننمو دون أن نشعر وتتغير
نظرتنا للكثير من الأمور مما يتطلب منّا خطوة نحو فهم أعمق ومواكبة لهذا النمو، أو
تحدث لطول الفجوة كوننا لم نحسن الالتفات بصدق إلى ترتيب أولويّاتنا بسبب انشغالنا
اضطرارًا أو اختيارًا، كون الانشغال أقوى مضاد للتأمل فيما إذا كانت الأمور لا
تسير على ما يُرام أو بحاجة إلى إعادة نظر أو قسط من الراحة والتنظيم. وبمجرد
مواجهتنا لها نظن بأنها قد رتبت نفسها بنفسها في غيابنا، بينما كانت هي بانتظار
تفرّغنا لكي نقوم نحن بذلك!
لم أكن أجهل كيف أجعل نفسي تتقبل البعثرة وتعيد ترتيب المكان وجدول المهام وتسترخي وتعود المياه لمجاريها ببساطة، لكنني كنت منزعجة من حدوث الكركبة ذاتها، فأن تقوم بترتيب أمور مزدحمة تعتبر مهارة، لكن أن تفهم أسبابها فهذا فن. ذلك ما كنت أميل إليه، كنت أتساءل لماذا حدثت تلك الفجوة بيني وبين أولويّاتي، لماذا أشعر الآن بأني أواجه صعوبة في قضاء وقت ساكن وهادئ دون أن تعبث بي مقاطعات داخليّة من ذهني أو خارجيّة من محيطي، لماذا أشعر برغبة ملحّة وعاجلة تدفعني نحو إيجاد أو خلق إنجازات أو أسباب لإشغال وقتي وعدم الجلوس في مهمة تعلّم الهدوء أو على الأقل فهم الدوافع لتلك الإنجازات، لماذا لم أعد أملك مقدار كبير من المرونة أو الصبر تجاه المشاعر أو المواقف المزعجة، لماذا أختار الطريق الأقصر من الحلول دائمًا والأكثر سطحية والأسرع نتائج، لماذا أهرول نحو التخلّص من الكركبة بدل الإخلاص لها وفهمها؟!
الكركبة تعني اختلاط الأمور ببعضها والتشويش والضجيج
وعدم الوضوح، تأتي الكركبة الحياتيّة في صور مختلفة، كأن تشعر بأنك غير منسجم مع
ما تعيشه الآن، أو عدم قدرتك على السيطرة على الأمور التي لا تعجبك، أو عدم تمكنك
من تجاوز مالا ترتاح إليه، أو عدم فهمك لأسباب ما يجري لك من المواقف المزعجة وتلاحظ
تكرّرها عليك بشكل ملحوظ بين فترة وأخرى، أو إدمانك على سلوك معيّن بشكل مفرط دون
سلطة منك عليك، وغيرها من المواضع التي تجد فيها نفسك الشخص المعاتِب لذاتك وللظروف
والناس أو الحائر والمشوّش أو المرهَق جسديًّا أو نفسيًّا.
في مثل هذه الحالات عليك ألا تجامل نفسك، وعليك أن
تنتبه إلى وجود تلك الكركبة والاعتراف بها، لأن رسالة الكركبة لك هي: "انتبه!
أنت بحاجة لفهم حقيقتك في بعض جوانب حياتك" وهذه أولى خطواتك نحو إدراك قيمة نفسك.
التطبيق العملي لهذه الخطوة: لاحظ ما يجري واسأل نفسك: أين
تكمن الكركبة بالضبط في حياتي؟ اجعل إجاباتك صريحة، ضع يدك تمامًا على أجوبتك وعلى
تلك الأمور التي تكرهها واعترف بها.
الخطوة الثانية| اسعى لفهم واقعيّتك:
حين نواجه ما نكره نفكّر مباشرة فيما نحب، نحاول أن
نحصل عليه لينتشلنا من محطة لا نفضلها إلى محطة نتمناها، لكننا نغفل عن منطقة في
المنتصف، وهي التي تمثل ما نحن عليه حاليًّا في الواقع وليس ما نتوقّع أن نكون أو
ما نريد أن نكون، الخطوة الثانية لمعرفة حقيقة نفسي كانت بالسعي لفهم طريقتي الآن
في التفكير والسلوك والشعور. المقصود بالآن هو أنا في الوضع الحالي، وبإمكانيّاتي
المعرفيّة المتوفرة، لا الشخص الذي أتمنى أن أكونه بالصفات التي آمل أن أمتلكها.
على سبيل المثال: أنت تكره أن يتم تجاوز حدودك كوقتك
الخاص أو مكانك الخاص، فتتمنى مباشرة إن كان بإمكانك الانعزال بالكامل في مكان
بعيد حيث الهدوء والحريّة التامة، وهنا قد تبدأ بالغضب أو التذمّر. هذا موقف بسيط
لكنه قد يتكرر عليك كنمط حياة ويسبب لك انزعاج وربما مشكلات مع من محولك أو الكثير
من المجاملات. حسنًا، ماذا لو ألقيت نظرة على طريقتك في التعاطي مع هذا الواقع،
أنت واقعيًّا كيف تتصرف، ماهي شخصيتك، بحيث تتعرف على صفاتك وسمات شخصيتك التي قد
تسبب انتهاك حدودك في الوقت أو المكان، ربما تكون بحاجة لتطوير مهارة التواصل مع
الآخرين والتعبير عن احتياجاتك والتوازن في الأخذ والعطاء تجاه الآخرين لرسم حدود
منطقيّة بلطف وتفهّم!
خطوة دقيقة جدًّا تفصل بين واقعنا وتوقّعاتنا، وهي أن نفهم طريقتنا في عيش الواقع، كيف نفكّر وكيف نشعر، وكيف نعبّر للآخرين عنّا.
هذه الخطوة من أهم الخطوات التي ساعدتني على الفهم،
وسوف تساعدك بكل تأكيد، كونها تمنحك عدسة مكبّرة لتبصر الصورة كاملة وتتبصّر في
ربط الأمور ببعضها. الأهم أن يكون لديك فضول كبير نحو معرفتك، من أنت؟! حقًّا من
أنت؟ ليس كما تحب أن تكون، بل كيف تبدو وتكون، تلك المعرفة سوف تكشف الغطاء عن
أمور قد تجهلها عنك، كأن تتفاجأ بأنك شخص ذو حساسيّة عالية، أو سريع الغضب، أو
متعاطف جدًّا، أو قيادي أو مندفع أو غيرها. الجيّد والغير جيّد فيك مهم أن تعرفه،
لأنك إن عرفت الجيّد منك استثمرته، وإن عرفت الغير جيّد عالجته!
كن فضوليًّا في معرفتك بكل حقيقتك، وفي رحلة المعرفة هذه لا تتوقع مثاليّتك، بل امتثل واقعيّتك!
التطبيق العملي لهذه الخطوة: هناك وسائل كثيرة تساعدك في فهم نفسك، يمكنك البحث عن الوسائل التي تفضلها أو تحتاجها لجانب معيّن تود فهم نفسك فيه، كأن تبحث عن اختبار يكشف لك نمط حياتك، أو مستويات توترك أو قلقك، أو مدى إنتاجيّتك وغيرها. بالنسبة لي، سأذكر من الوسائل ما جرّبته شخصيًّا وأضاف لي الكثير من المعرفة.
- الإرشاد الأسري من خلال Genogram (خريطة العائلة)
هذه الوسيلة تساعدك على فهم صلة شخصيتك بأهلك، حتى إن كنت منفصل عنهم، أنت حتميًّا جزء منهم، أنت تحمل جيناتهم وربما بعض أفكارك وسلوكيّاتك تفرّعت منهم. شاهدت محاضرة مجّانية رائعة جدًّا لدانية بابكير تشرح فيها مفهوم Genogram ثم تستعرض أنواع الأشخاص في خريطة العائلة تلك. أنصح وبقوة بمشاهدتها كاملة بصحبة ورقة وقلم. افهم نمطك الأسري ودوّن ملاحظاتك بكل أمانه تحته أو إن كنت تملك أكثر من نمط، واعرف موضعك من الخريطة. (اضغط هنا لمشاهدة محاضرة دانية بابكير)
- اختبار (Big Five Personality) سمات الشخصية الخمس الكبرى.
اختبار لطيف يعطيك تقرير كامل عن نسبتك المئويّة من خمس صفات: (Openness) مدى انفتاحك ونموّك، (Conscientiousness) مدى وعيك وقوة إرادتك، (Extraversion) مدى انبساطك ودرجتك الاجتماعيّة، (Agreeableness) مدى القَبول عندك والذكاء العاطفي، (Neuroticism) مدى استجابتك للعصابيّة والأمور المحزنة أو المقلقة. الاختبار مجاني ونتائجه مجانية، ولكن للحصول على وصف تفصيلي يجب أن تدفع مبلغ مالي، بالنسبة لي دفعت دون تردد والتقرير أحتفظ به إلى الآن كمرجع رائع. (اضغط هنا لإجراء اختبار Big Five Personality)
- أفضل صفة وأسوأ صفة.
أن تسأل أفراد مقربين منك ويعرفونك حق المعرفة عن أفضل صفة وأسوأ صفة فيك من منظورهم، كل فرد سوف يعطيك صفتين تمثلان نقطة قوة عندك أو نقطة ضعف بحاجة إلى تقبّل أو موازنة أو تقوية. طريقة رائعة للغاية خاصة أنها تعكس مدى أثرك الطيّب عند الآخرين، وكذلك هي طريقة مفيدة جدًّا لتطوير شخصيتك بشرط أن تتقبّل صراحتهم في نقدك. دوّن تلك الصفات وتفكّر فيها.
- اختبار تحديد نمط الشخصية.
اختبار معروف وقديم جدًّا من مدونة جاسم الهارون، أحب دقته وشفافيّته وشموليّته، يكشف نمط شخصيتك ويسلط الضوء عليها في أهم جوانب الحياة: أنت كصديق، كزوج، كمربي، أهم ميزاتك وأهم مشكلاتك. رائع جدًّا وأنصح به ويمكن اتخاذه كمرجع في أحلك المواقف لفهم توجهاتك ورد فعلك. (اضغط هنا لإجراء اختبار نمط الشخصية)
- اختبار أهم 5 قيم تتبنّاها في حياتك.
من أجمل التجارب التي عملتها هو هذا الاختبار، يعرض لك قيم كثيرة قد تصل إلى 50 قيمة كالتعاطف والانضباط والوضوح والدين وغيرها، بإمكانك تحديد كل القيم التي تهمك مهما كان عددها، ثم يبدأ بتخييرك بين اثنتين في كل سؤال وتنتقي الأهم بالنسبة لك، وفي الخطوة الأخيرة يختم لك الاختبار بأهم 5 قيم تم تصفيتها إلى النهاية باعتبارها الأهم والأقوى عندك وهي التي لا تساوم فيها ولا تتخلى عنها أو تتخذ قراراتك بالاعتماد عليها. أنصح به وبشدة. (اضغط هنا لإجراء لاختبار أهم 5 قيم لديك)
الخطوة الثالثة| فرّق بين نفسك وذاتـك:
بعد أن تفهم واقعيّتك، يمكنك أن تتساءل ما إذا كنت تعيش
بالصفات الطيّبة والحقيقيّة منك وتسيطر على السيء منك أم لا. فهل الصفات التي عرفتها
عن نفسي هي نفسها ذاتي التي أعبّر عنها؟ هل أنا في جوهري هو أنا في مظهري؟ ما هو
الحقيقي مني وكيف أكون شجاعًا لكي أفصح عنه؟
في الأصل أنت في حقيقتك تمثّل ذاتك، ولكن ليس كل صفاتك الحاليّة تعكس ذاتك في الواقع، بمعنى أنك قد لا تعيش حقيقتك بالكامل حاليًّا، والدليل هو أن اختبارات الشخصية سوف تعطيك صفات حقيقيّة فيك لكن سوف تجد نفسك في الواقع لا تتعامل مع هذه الصفات بوضوح أو بحكمة أو باتزان بسبب عدم ثقتك أو وضوحك مع نفسك وصراحتك. عليك أن تدرك أن هناك فرق بين نفسك وعقلك وذاتك.
- النفس: مشاعرك وسلوكك ورد فعلك.
- العقل: خادم النفس (السائق الذي يحرّكها).
- الذات: كل ما فيك (نفس وعقل وشكل، داخلي وخارجي).
من أمتع وأنفع وأروع الحلقات التي فهمت من خلالها مفهوم
الذات هي حلقة من بودكاست خبير لياسر الحزيمي في استضافته للدكتور إبراهيم
الخليفي. هذه الحلقة تابعتها ودوّنتها بخط اليد في دفتري لتصل إلى تسع صفحات من
الوجهين، بالنسبة لي كانت حلقة جوهريّة، أشبه بمصابيح مضيئة أوقِدت بداخلي، أشبه
بلحظة يقظة، أشكر من هذا المنبر كل من قام عليها ونشرها.
التطبيق العملي لهذه الخطوة: مشاهدة الحلقة بالكامل. فالطرح
في الحلقة يعطيك امتداد عميق لفهم الذات، بأسلوب الدكتور البسيط والتأكيدي،
ابتدأها بتعريف الذات، ثم السبل المساعدة على معرفتها، وما هو قدْر الذات بين الثقة
والكِبر والميزان الذي نزنها به، وما الفرق بين الذات من المنظور الغربي والمنظور
الإسلامي مع الحديث عن هرم ماسلو ومقارنته بمدارج السالكين لابن القيّم رحمه الله
(لفتة مذهلة). بعدها يوضح لك كيف تبدأ بترميم تلك الذات وتعيد بنائها، وكيف تفرّق
في مرحلة البناء بين ما هو أنت وما ليس أنت، وما هي اللوافت والمفاهيم المغلوطة
التي قد تشوّش عليك في معرفة ذاتك وبنائها، وأخيرًا كيف تحمي ذاتك. أتمنى لكم
مشاهدة ماتعة فعلًا.
الخطوة الرابعة| حــقّق ذاتــك بتزكية نفسك:
من آخر خطوة تبدأ قصتك، تبدأ حكاية طويلة لا تنتهي، وهي
تحقيق ذاتك، الإفصاح عنها والعيش بها، أن تكون في نمط حياة يعكس جوهرك بوضوح،
تحقيق الذات أمر عظيم جدًّا وليس سهل، بل يحتاج إلى معونة ومساعدة وصبر. ما هو
تحقيق الذات؟
"تحقيق الذات هو حاجة الفرد للتعبير عن ذاته بصورة مباشرة أو غير مباشرة والوصول إلى أقصى ما يمكن تحقيقه من إمكانات وقدرات بقصد إشباع حاجاته، وإعادة حالة الاتزان التي تساعده في استخدام تلك الإمكانات والقدرات في خدمة الفرد والمجتمع والقيام بأدواره ومسؤولياته وواجباته المعتادة." مُقتَبَس
ما أفهمه شخصيًّا عن تحقيق الذات هو أن تكون متزن
بالنسبة لإشباع احتياجاتك، ومدرك لحقيقتك ونقاط ضعفك وقوّتك مما يؤهلك للتعبير عنك
في حياتك من خلال ممارساتك. ما يعرقل وصولنا لهذه المرحلة من الاتزان والوضوح هو
عدم عيشنا بحقيقتنا، فحقيقتنا قوّة، فنجد أنفسنا قد نواكب السائد أو المادّي أو نسابق
الزمن أو نتنكّر لميزاتنا أو ننهزم تجاه احتياجاتنا التي لم تُلبّى أو تجاه
مخاوفنا، أو نتوه بفعل اللوافت وغثائيّة المجتمع، ثم نتساءل بعد كل ذلك: من نحن
ولماذا يحدث لنا هذا! وهنا تلوح معالم اليأس والتعب وعدم الرضا.
ومن ناحية أخرى، من المؤسف أن مفهوم تحقيق الذات يُظلم
كثيرًا بسبب إلصاقه بالفردانيّة البحته، والأصل أن الذات بمفهومها الشمولي هي من
يحتوي النفس والعقل، ويجدر بها أن تقوم بتهذيبهما وتحقيق أسمى مراتب النفس معهما.
إذًا فالنفس ذات أوجه مختلفة منها ما هو بحاجة إلى أن يُقاد ويُهذّب، وكذلك العقل.
فمفهوم تحقيق الذات يقوم على تهذيب النفس، لكي توصلنا هذه النفس لأطيب حياة
نبتغيها. وهذا هو بالضبط مفهوم تزكية النفس العظيم، الذي يقوم على الاستعانة بالله
لتحقيق الذات، وليس استعانة الفرد بذاته وحسب.
تحقيق الذات لن يكون إلا بتزكية النفس (حملها على الطيّب واستثمار نقاط القوة، ومعالجة السيء منها ونقاط ضعفها)، ولن تتمكن الذات من تزكية النفس بمفردها، ومجابهة كل مدخلاتها وأفكارها والمؤثرات عليها من كل حدب وصوب لتتمكن من إزالة ما يعيق هذه الذات عن السموّ لأزكى صفاتها وسماتها. لأوّل مرة أتشرّب هذا المفهوم بهذا الاتصال والترابط، بقدر معرفتي بمفهوم تزكية النفس منذ زمن، إلا أنني لم أستوعبه كما استوعبته في هذه المرحلة. التطبيق العملي لهذه الخطوة: فهم تزكية النفس والقراءة والاطلاع في سبل التزكية.
الخطوة الخامسة: الخـلـوة .. سبيل حقيقتك:
بعد أن تبدأ قصتك في تحقيق ذاتك ستلازمك تزكية النفس في كل خطوة، لأن صراع الاحتياجات والرغبات والمؤثرات وزحام الحياة مع نفوسنا يفسد علينا إدراك حقيقتنا وبالتالي تحقيق ذواتنا، وإن كنّا سنظل في دائرة لوم الحياة والظروف فسينتهي بنا الأمر إلى البكاء على الأطلال .. أو التمثيل بأننا أبطال! وكلاهما لن يعودا علينا إلا بالمزيد من التشتت. إذًا، كيف يمكننا أن نركّز؟ أو نصمِت اللوافت من حولنا؟ كيف يمكننا أن نهدأ لنتمكّن من التفكّر فعلًا كيف نرتقي عتبات المجاهدة لنصل إلى العمق؟
عمق الذات لا يكون بالدنوّ، بل بالسموّ. وأسمى ما يمكنك ممارسته لتسمو لعمقك هو الخــلوة.
كنت قد وصلت لهذه المرحلة من محاولات فهم تزكية النفس قُبيل
شهر رمضان الماضي، وتزامنت حلقة الدكتور إبراهيم الخليفي عن الذات مع محاولاتي
تلك، وكانت إشارته لأهم أدوات ترميم ذاتك وإدراك حقيقتها هو أن تهدأ وتُصمت الضجيج
حولك وتمارس الخلوة. وجدتها فرصة مناسبة وذهبيّة لتطبيق الخلوة خلال شهر رمضان ويا
لها من تجربة.
في بداية الأمر قد يصعب عليك كسر الروتين والتخلّي عن
عادات تملأ وقتك، كتصفّح مواقع وسائل التواصل بتعدّدها وتنوّعها، وتصعب عليك نفسك
برغباتها ومشاعرها ومحبوباتها. الأمر ثقيل في البداية، لكن حمل أمر تزكية النفس
على محمل الجد سيضعك في دائرة الاختيار. كانت ثلاثون يومًا من الامتناع عن الكثير
من المدخلات التي لا تصب في هدف التزكية، كالامتناع عن متابعة سلسة معيّنة من البرامج
أو تحرّي أحداثها، حذف مواقع التواصل من الهاتف عدا ما يلبّي حاجة التواصل مع
الأهل، عدم قراءة أي كُتب ماعدا:
كتيّب خفيف بعنوان: (النّفس – تأمّلات في القلب والعقل وإدارة النفس وصحّتها) لصديق الوالد حفظه الله د.يوسف العريفي وفقه الله، بالإضافة إلى سلسة حلقات من بودكاست سكينة مع الدكتور خالد الجابر حول النفس وتزكيتها وأهمها حلقة هل تعرف نفسك أدرجتها في الأسفل. كما امتنعت عن التدوين لتوثيق رمضانيّات العام كما أفعل في كل سنة. تعمّدت التجرّد أو التخلية..علّها تكون سبيل للتحلية.
هدف الخلوة كان التوقف عن الانشغال بأي شيء خلال الشهر
والشعور بالخفّة والتركيز على هدف واحد وهو التزكية، أما طبيعة الخلوة فكانت
بالجلوس في مكان هادئ بعد ممارسة العبادة ثم الالتزام بالصمت، سكون في كل جوارح الجسد
وإنصات لصوت الصمت، كان الصمت مطبقًا ومهيبًا، كنت أُطفئ حتى التكييف لمنع صوته، وأفتح
الشرفة بالكامل مع نسيم خفيف في آخر الليل فلا أسمع إلا صوت الهواء أو حفيف أوراق شجرة
الجيران أو عبور سيارات بعيدة جدًّا في الشارع. ذلك الصمت أدهشني، وفعل اللا شيء والاسترخاء
لدرجة الإنصات للنّفَس في جوفي كان له مفعول عجيب خاصة مع صفاء الذهن من الشواغل
في الروتين اليومي.
لا أعرف كيف أشرح أو أصف بأنك بعد جلسة الخلوة تفهم نفسك أكثر، تعترف بأمور وتصحّح أمور وتعزم على تحسين أمور، وأنت صامت، تنهض وقد أخذت درسًا واستوعبته جيّدًا، كل فجر جديد بعد الخلوة الليليّة كان يعطيني درسًا عميقًا، أعمق من أي محتوى يمكن أن أشاهده أو أقرأه. لأفهم وأدرك وأؤمن حقيقة مهمة جدًّا وهي:
الخلـوة..سبيل حقيقتك.. لأنها تربطك بالحق سبحانــه.
النفس بطبيعتها هائجة، والهيجان يعكّر صفو سطح الماء
وبالتالي يحجب صفاء الانعكاس الحقيقي لذاتك لتبصر ما وراء السطح وما يسبح في داخلك،
الخلوة تهدّئ النفس، فتصفو الرؤية. ما تتعلّمه النفس أثناء سكونها ولجوئها إلى الله
والتفكّر بصمت هو شيء يشبه المعونة الإلهية، بل هو كذلك فعلًا، معونة حقيقيّة،
كالوحي أو الإرشاد الهادئ والصادق والحنون والواثق. ذاتك بفطرتها سوف تستوعب ذلك بشكل
غريب وإعجازي فتتقوّى على نفسك، فالرب يربّيك لتستطيع تربية نفسك، واتصالك بهذا
المدد هو اعتراف بضعفك ومحدوديّة فردانيّتك وتحقيق لمفهوم عبوديّتك أصلًا لتتمكن
من عمارة الأرض.
التطبيق العملي لهذه الخطوة: استعنت خلال هذا الشهر بمنهج علم النفس الإسلامي للدكتور خالد الجابر الذي قام بشرحه في الحلقة المذكورة آنفا، المنهج يقسم أهداف الإنسان الذي يسعى لتحقيقها مع نفسه إلى خمسة أهداف، يمكنك التأمل في كل هدف على حِدة وتتعلّم كيفية تزكية نفسك لتحقيقه. قمت بتلخيص المحاور المطلوبة للتزكية كما ذُكرت في الحلقة في جدول ورقي أفادني كثيرًا في جلسات التفكّر والخلوات لتدوين الملاحظات والتأملات. هنا جدول إلكتروني مطابق أعددته على عجالة بنفس الفكرة لكنه فارغ ليتم استخدامه وتعبئته حسبت تأملاتكم تجدونه هنا جدول لتأمّلات تزكية النفس لكن من المهم مشاهدة الحلقة قبل ذلك لفهم شرح كل محور وطريقة التعامل معه:
الجدول بنسخة Word – الجدول بنسخة PDF
الخطوة الأخيرة: عش حقيقتـك:
ماذا يحدث بعد أن تعرف نفسك أكثر وتستطيع أن تفهمها
وتفهم رغباتها واحتياجاتها، ألاعيبها وحقيقتها، ضعفها وقوّتها، وتعرف كيف تكسب
قوّة وبصيرة في توجيهها؟ ما يحدث هو أنّك تملك أهم دليل إرشادي لتعيش بحقيقتك، لأنك
اعترفت بك بينك وبين نفسك، ولن يخيفك بعد اليوم أن تواجه ما هو خارج نفسك وأوسع من
محيطك الذاتي.
سوف تكون أكثر حزم، وتعرف كيف تقول لا لنفسك، ثم تكسب مهارة قول لا لما لا يناسبك من الآخرين، سوف تكون أكثر عطف معها في نفس الوقت، لأنك متفهم لنقاط ضعفك، سيقل اللوم والجلد للذات، وسينخفض كذلك التردد وقولك كثيرًا لأبسط الخيارات التي أمامك (لا ادري ماذا أريد)، ستتمكن من تحديد اوليّاتك، أهدافك، علاقاتك، ما تريد أن يبقى معك، وما تريد أن تتخلص منه سواء المادّي أو المعنوي، مرونة في الاختيارات والقرارات، ستشعر بأنك محاط بسند متين، حتى وإن وقعت تؤمن بأنك لن تنكسر، ولن تتوه، ولن تثقلك الأقنعة بعد اليوم، وكلما أحسست بما يشتتك أو يؤلمك أو يضغط عليك، ستدرك بان لديك مخزون قوّة لا ينفد، ركنك المتين وخلوتك المخلصة، تجدد فيها عهدك ووعدك، لتعود بخير وتستمر.
سوف تكون أكثر تقدير لكيانك، وأقل خجلًا من أي شيء فيك مختلف عن الآخرين، لأنك تعلم بأنها نقطة قوّة عندك أو ميزة أو طبيعة حباك الله بها. لديك تصوّرات حقيقيّة تؤمن بها عنك وعن حياتك، ولا يخيفك أبدًا عدم اقتناع المحيط الخارجي بها، فمحرّكك الأساسي بعد نور ربك هو ذاتك الساطعة الواضحة والجميلة في نظرك، وإن كان في نظرك أنت فقط، صدقني أنت تكفي.
الخطوة الأخيرة، هي الخطوة الأولى للبدء بعيش حياتك
بحقيقتك، ليس بعشوائية وحرّية تبيح فيها لنفسك أن تعبث بك، بل بحقيقتك المنضبطة
المدروسة المتأمّلة التي زكيتها وسهرت من أجل تحسينها وتنوريها!
التطبيق العملي لهذه الخطوة: عش حقيقتك بهيئتك بشكلك بتفاصيلك،
بلهجتك بلونك بأصلك، بفكرك بمبادئك بقيمك بأعز الأشياء عليك، عش بكامل طمأنينتك ولا
تخف لأن الله معك أوّلًا، ولأنك قويّ ثانيًا، ولأن حياتك تخصّك وتعنيك.
ختامًا، شكرًا لأنك وصلت لهذا السطر، شكرًا لأنك كنت مخلصًا لنفسك وتحبها، شكرًا لأنك قررت أن تعيش حياة تشبهك. أطيب تحيّة من بشرى لك.. أنت بالتحديد.
أجمل ما قرأت من فترة طويلة بهذا المجال ، شكرا لك نفع الله بما قدمتي ❤️
ردحذفسعيدة بذلك جدًا ! اللهم آمين ❤️❤️❤️
حذفشكرا من القلب 💕 شكرا للقناة الي جابتني هنا 😭 اُنهي الخطوات وارجع لك بتجربتي 💕 انا في رحلة من ٦ اشهر للبحث عن ذاتي ،، البودكاست المرفق جميل ،، ولكن خطواتك شرحت الموضوع ولخصته بشكل اكثر من رائع 💘
ردحذفشكرًا لتواجدك وسعيدة جدًا بأن ثمة ما يرشدك هنا.. الرحلة حقًا تستحق.. تمنياتي لك بأطيب حياة مع ذاتك 💕💕💕
حذفما أروعك وما أروع هذا المقال!
ردحذفكروعة حضورك .. شكرًا 💕💕
حذفبشرى يابشرى سلمت اناملك على هذا المقال الرائع من سنه وانا برحلة البحث عن ذاتي وشعور الكركبة يشتد ويرخى ولقيت مقالك هذا من كم شهر كل ماخذيت رجعت اقراه🥹❤️❤️ يلامسني بشكل يمكن ماتتصورينه
ردحذفشكراً جزيلاً من القلب والله يكتب اجرك ويجزاك عننا خير الجزاء
يا أهلًا وسهلًا.. سعدت بتعليقك جدًّا وبإصرارك على فهم ذاتك وشرف لي أن تكون تدوينتي مرجع وجزء من تجربتك.. أتمنى لك رحلة مليئة بالنور والسلام والصدق.. كل التوفيق ❤️❤️
حذفرائع .. والمقاطع المرفقة مفيدة جدا .. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل السنة خالية من الأشهر العربية ؟ لماذا لم نعد نستخدمها شهر فبراير أليس في ذلك الشهر كنا نعيش فيه شهر عربي ! أو لم تعد تعجبكم المسميات العربية وتشعرون بالفخر والرقي باستخدام الأشهر الإفرنجية ؟
ردحذف