ثمن التجربة



ملاحظة: أكتب هذه التدوينة أو إن صح التعبير هذا النص على طاولة مجتمع الكتابة بمقهى أشجار، أكتب وسط كتّاب في صمت يعم المكان وصخب يجتاح كل الأشخاص الموجودين مع دفاترهم وأجهزتهم، لذا سأكتب بفعل كل هذا الهدوء والصخب معًا إيفاءً بوعدي لمجتمع الكتابة.


قرأت صبيحة اليوم اقتباس شجيّ تقول فيه روزا: 

"يترك المرء جزءًا منه ثمن كل تجربة، لذا يحنّ حين ينظر إلى صور الطفولة،حين كان كاملًا "

 عن التجربة الذاتيّة، فكرتها ونشوتها، قلقها ودوافعها، تمنّيها وتوخيها، التجربة، الخطوة الأولى لقول نعم، والخطوة الأخيرة لقول لا، الدهشة والسلّم الممتد لقعر القلب، التجربة سبيل نحو السبيل، مشاعر باردة ومنعشة، تسمّى سلسبيل.

تلك هي التجربة حين تستقر في هاجس الإنسان رغبةً ورهبة، وربما هكذا يراها ويتصوّرها، لكن التساؤل الذي أطرحه هو: ما ثمن تلك التجربة بما تحمله من كوامن شعورية؟ وهل الثمن الذي نقدمه إيزاء ركوب التجارب يُضاف لنا، أو يقضم منّا؟

تقول روزا بأن الحنين يجتاح المرء نحو طفولته، حين كان كاملاً، أدهشني الوصف حقًا، وهنا أرى المفارقة، فالذي يدفعنا للتجربة قد يكون شعورنا بأنها تنقصنا، وبأننا سنكمل جزء منا بخوضنا لها كخطوة إضافية للارتقاء بالعيش والأخلاق والفكر والثقافة وغيرها من الجوانب الإنسانية، وفي حال كانت التجربة كذلك، إذًا ما الذي يبرر النقص أو الاكتمال، وما الذي يفسر هذا الحنين لما قبلها، وشعورنا بأننا كنا أشخاص أكثر براءة وحريّة؟

وكمثال حيّ للتجارب، أمر حاليًّا بتجربة جديدة، قربتني من أمور وأبعدتني عن أخرى، وبقدر إقبالي على القريب، أحنّ للبعيد، وبقدر اكتمالي ونضجي مع كل تجربة أبكي للشخص الذي كنته حين يتكوّر على ذاته ولا يأبه بشيء سوى متعته. الفاصل بين هذا وهذا هو الدافع الفطري نحو المسؤوليّة وتبنّي خيارات وقرارات نابعة من الذات ولها، أسبابها وأبوابها كلها تعني للمرء، لا تشوبها شائبة التعلق والقبوع في منطقة الراحة وإيهام النفس بأن الأمر لا يعنيها، وبأن ما فيها يكفيها!

المسؤوليّة التي نتبناها ذاتيًّا وبشكل طوعي ليست كما نقول (غاوي شقى)، مما تؤدي بنا إلى خطو خطوة نحو تكبّد خيارات ثقيلة، بل هي نداء فطري لعيش ما تبقى من الحياة، من الجوانب الجديدة والمجيدة، من الشجاعة بالسماح لنسخ مضيئة منا بأن تظهر وتشع، من الخيارات التي تفضلنا ونفضلها، لكي نرى المزيد ونشع بالمزيد ونبذل المزيد، التجربة بحد ذاتها جزء من كينونة المرء وملوّن لملامح كيانه، نبض عقله وجِنانه، والحنين ملازم للإنسان لا محاله، إما لماضيه الذي عاشه أو لمستقبله الذي لم يعشه.

الحنين للطفولة، البلد الأم، الدار وأهل الدار، الأصدقاء القدامى الأزقة والمشاعر البدائية، الخفة والتخفّي، كلها سجيّة للحياة الإنسانيّة، لكنها مُحال أن تكبح صاحبها عن التجربة، فالتشبث بالوالدين لا يعني عدم خوض الوالدية، وحب الدار لا يعني عدم تعمير دار، والسبل المسلوكة لن توصد السبل المجهولة، وفي كلٍّ حياة، لكن الإنسان يظل إنسان، يمقت الحنين، ويسعى إليه.


تعليقات

  1. تدوينة جميلة
    حسيت ارتباط حنينا بشكل كبير لمرحلة الطفولة لأنا كنا لسا كاملين وقتها ما دفعنا أثمان كثيرة فكرة جديدة علي، ومنطقية
    شكرًا لك

    ردحذف
    الردود
    1. شكرًا لك، وأتفق معك جدًّا وأحببت تعبير "كاملين" ="(

      حذف
  2. مـرحبًا .. بُشـــرَى،
    لم يعد تأقلمنا، للرغبات، بل لشحٍّ الخيارات..

    ردحذف
    الردود
    1. أهلًا لك، ربما.. حينها يكون مؤلمًا أكثر! شكرًا لك.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني