ذكرى الميلاد - شمعة لا تنطفئ

الليلة هي ذكرى ميلادي، يسعني الآن أن أطفئ شمعة الثانية والثلاثين وأنا متّقدة بشموع ساطعة في الداخل، بهيّة وحقيقيّة، ممتنة لله عليها. أخذتني هذه السنة في تجارب كثيرة لست أنوي سردها بحذافيرها، لكن الأيّام عمومًا تضعك في مواضع تبدأ في التفكير بحيرة في دورك فيها، ماذا تريد منك وماذا تريد منها، الأصوات المتعددة في الخارج تضعف صوت الداخل الذي يخبرك أصلًا بدورك، ولا سبيل لتمييز هذا الصوت إلا بالفرار إلى السكون، ليس المقصد سكون المحيط بل سكون النفس.

أن تهتدي لأن تجدك في وسط دوّامة، أن تحظى بالوضوح وسلامة العيش، أن تتقبّل فتَقبل وتُقبَل، ألا تأخذ وقتًا طويلًا في التردد، أن تكون انسيابيًّا في خياراتك واثقًا من مبتغاك واحتياجاتك ولستَ مُنقادًا نحو اتباع جلّ رغباتك، أن تصدُقَ نفسك وتعلم أن الأمر قد يشكُل عليها فعلًا وأنها ليست مرشدك بل هي بحاجة لمن يرشدها، أن تدرك أن الأمور ليست ما يبدو خارجًا بل كل ذلك معوّل على الداخل، هذا ما قصدته بالشموع الداخليّة!

تلك الشؤون الداخليّة في النفس كانت بحاجة إلى مساحة في نهاية كل يوم كي ترتّب ما تبعثر منها، كانت أغلب أيّامي تنتهي بالولوج ليلًا إلى حجرتي، تلك المنطقة التي تهبني مساحة التأمّل وممارسة السكون، وتمنحني فرصة إعادة النظر فيما حدث يومها في الخارج وكيف يبدو في الداخل، ويومًا بعد يوم شعرت في نهاية سنتي هذه بأنها المكان الذي أحب، والذي يجمع بيني وبين نفسي بكامل حقيقتها، بهفواتها ومحاولاتها، ببراءتها وتساؤلاتها، وبالكثير من تأملاتها.

 صادفتني قبل أيّام أغنية لفيروز بعنوان "الأوضة المنسية"، بديعة جدًا جدًا، عبّرت بشكل بديع عما أكنّه تجاه حجرتي، صحيح أن الأغنية تصف حبًّا متبادلًا بين طرفين، لكنها بالنسبة لي فهي تصف حبًّا متبادلًا بيني وبين نفسي حين أحاول جمعها ولملمتها نهاية اليوم عند نافذة حجرتي في تأمّل وهدوء في الطابق الثاني من المنزل. وصفتني حين اختارت الليل والتعبير عن الحجرة بالمنطقة المنسية في أعلى الدار حيث تكمن الأسرار، وتدور فيها أحاديث ليس بالكلمات بل بالتنهيدات والتأمّلات، تلك الحجرة رغم صغر حجمها إلا أنها تغْني عن مئة بيت في رحابة احتوائها للنفس، فيمضي الوقت دون ركض وكأن الزمان قد توقف كونها محطة استراحة، وكأن نفسي حين تلج إليها تقول لي كما الكلمات: تعبانِة وبدّي حاكيك..حاكيني الله يخليك!

كل عام وأنا بخير، شمعة لا تنطفئ، حقيقيّة وصادقة، من أعمق نقطة فيّ، إلى أوسع أٌفق، أترككم بسلام في العلّيّة، وسط الأوضة المنسيّة.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني