سهرةٌ أندلسية | عن الذكريات والموشحات





فضلت أن أقضي ليلتي الساكنة بسهرةٍ أندلسية أحكي فيها عن شغفي الأندلسيّ الدفين والذي يتيقظ مع التفاصيل الأندلسية من حولي في كل مرة، كلحن أندلسي أميل إليه دون علمي المسبق بانتسابه إلى الأندلس وبأنه قد نبع من وسط مجالس قصور قرطبة وإشبيليّة أو مع رواية تحمل قصصاً عن غرناطة وعن هجرة الغرناطيين نحو بلاد العالم أو مع قصيدة شعرية فاتنة صاغها شاعرٌ أندلسيٌ فصيح. فدائماً ما أرى الأندلس بعينٍ معجبة وشعور مرهف لا يمكنني وصفه من فرط الجمال والعز والدلال الذي أحاط بتلك الأرض في تلك الحقبة الزمنية. هنا حديث مفعم بالعبير الأندلسي والذكريات ولحن الموشحات.


الذكريات الأندلسية:
المصدر (هنا)

لقد انطوت تلك الحقبة التي قامت فيها الأندلس وحتى سقوطها على ثمانية قرون، فكان عمراً مديداً من الازدهار والافتخار. كانت بداية تلك الحقبة الفتح الإسلامي الأول لهذه الأرض على يد القائد طارق بن زياد سنة 92 للهجرة فرسّخ فيها العقيدة الإسلامية وغرس دعائم الوحدة وخدم ساكنيها أيّما خدمة. ثم تلا عصر ذلك الفتح عصر الإمارة سنة 95 للهجرة حين حكم الداخل أرض الأندلس فحفظ استقرارها وبرزت حينها حضارتها وبدا العمران في أبهى صورة، ويعتبر أهم معلم للحضارة العمرانية في ذلك العصر جامع قرطبة العظيم، كما بدأ نشوء الدويلات فيها. بعدها جاء عصر الخلافة سنة 316 للهجرة بقيادة الناصر ذو الثلاثة وعشرين عاماً والذي عظم في عصره هيمنة الأندلس وقوتها وتمسكها بالإسلام وتطورها العسكري والعمراني فبنيت العديد من المدائن أشهرها مدينة الزهراء والزاهرة، وقد بلغت مكانة الأندلس مبلغاً عظيماً في عصر الناصر ذو الحنكة والدهاء لدرجة تطلع الروم لمصاهرته بغية القرب منه. وقد توالى الحكام الأمويون في عصر الخلافة على حكم الأندلس حتى انتهى ذلك العصر بموت عبد الرحمن بن منصور الأمويّ ليحين العصر الرابع لهذه الأرض، عصر الطوائف سنة 400 للهجرة.


يعد عصر الطوائف مرحلة انتقالية من بعد سقوط الخلافة وبروز الطوائف واستقلال كل قائد بطائفته فنشأت حينها الممالك وبدا كل ملك فيها منغمساً بتحقيق سبل الازدهار والرفاهية في مملكته فتفككت الوحدة المعهودة وغابت المكانة المنشودة وبدا العدو النصرانيّ بالتربّص ثم الهجوم، فاستغاث الأندلسيين بالمرابطين في بلاد المغرب بقيادة يوسف تاشفين فأنقذوا الأندلس من قبضة العدو وحكموها في عصرها الخامس سنة 484 للهجرة فازدهر ذلك العصر بالعلم والأدب وصارت قصور الملوك مجالس لأصناف العلوم ومختلف الأدبيات التي يرد من معينها المشايخ والعلماء والأدباء. وكما هي الأيام والدول، فقد دبّ الضعف في حكم المرابطين فجاءت دولة الموحدين من المغرب لتأخذ مكانهم بعد أن قامت حرب بينهم، فحلّ بذلك عصر الموحدين سنة 540، واستمر ذلك العصر حتى سنة 620 للهجرة. كان ذلك التتابع المستمر للعصور والحكام أرضاً خصبة لوطأة العدو وتفشي الإسبان وإسقاطهم للمدن والمساجد فسقطت إشبيلية والقنطرة وقرطبة وتحولت المساجد إلى كنائس وبدا صوت الأجراس يرن بين جدرانها بدل الآذان وتراتيل القرآن. 


وبحلول سنة 635 للهجرة انبثق الأمل مجدداً في وسط غرناطة حين استولى عليها بنو الأحمر من المسلمين وحكموها قرنين ونصف من الزمان رغم الأخطار المحيطة بها، فكانت غرناطة ذات منعة وسؤدد وباتت بمثابة المأوى لكل المسلمين في الأندلس فاكتظت بالسكان وبرزت على إثر ذلك الزراعة والأدب والعلم وقوي الجهاد. أما بقية الأندلس فكانت بين يدي قشتالة وأرغون الذين اتحدوا سوياً بغية إسقاط ما تبقى من حكم المسلمين، فقد غاظهم خبر فتوحات المسلمين في ذلك الوقت وخبر فتح القسطنطينية على يد العثمانيين، فهمّوا ببث الفتنة وإبرام العقود مع حكام غرناطة. وفي سنة 897 للهجرة وقع حاكم غرناطة في الفخ وهو أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك المسلمين في الأندلس، فقد وافق على اتفاقية مع ملوك قشتالة وأراغون تقتضي خروجه من غرناطة شريطة صيانة الإسبان لدماء المسلمين فيها وإعطائهم حريتهم وأحقيتهم الدينية. لكن الإسبان وكعادتهم المعهودة، نقضوا تلك العهود ونكّلوا بالمسلمين فباتوا تحت الهوان والعذاب، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من فرّ في الأرض الواسعة معلناً تفرق شمل المسلمين من الأرض التي جمعتهم ذات يوم تحت ظل السيادة العادلة والحياة الفاضلة.

فنّ الموشحات الأندلسي:



برز هذا الفن في عصر أبو عبد الله محمد الصغير في آخر عصر للأندلس وقبل سقوطها بالكلية، فاشتهر ذلك العصر بمختلف الفنون الشعرية ومنها الموشحات.


"تميّز هذا الفن الشعري الغنائي بتنوع الأوزان وتتعدد القوافي، والذي تعتبر الموسيقى أساسا من أسسه، فهو ينظم ابتداء للتلحين والغناء. وقد جاءت نشأة الموشحات نتيجة لظاهرة اجتماعية، وذلك أن العرب امتزجوا بالإسبان، وألفوا شعبا جديدا فيه عروبة وفيه إسبانية، وكان من مظاهر هذا الامتزاج، أن عرف الشعب الأندلسي العامية اللاتينية "رومانثي" كما عرف العامية العربية؛ أي أنه كان هناك ازدواج لغوي نتيجة للازدواج العنصري. وكان لا بد أن ينشأ أدب يمثل تلك الثنائية اللغوية، فكانت الموشحات." *مقتبس

إن الطابع الذي يتركه لحن الموشحات في الكلمات الشعرية يضفي جمالاً شرقياً ساحراً يجبرك على التلذذ بالقطعة الأدبية كلمةً كلمة، والتي من شأنها أن تنافس بقية الفنون في الحسّ واللحن وطريقة التغنّي الفريدة! وقد استمر هذا الفن منذ ذلك الوقت وحتى القرن العشرين مع اختلافات وتطورات تنصب جميعها في غاية المحافظة على هذا الإرث الفنّي الفريد. هنا بعض الأبيات التي تُغنّي بها بألحان الموشحات:

موشح صاحب الليل:

أبيات فاتنة ولحن فريد للغاية، للاستماع (هنـــا).

صاحب الليل وافى من خيام الظلال *** يتثنى انعطافا مشرقي الجمال
زارنا أهيفا مشرقاً بالصفا *** ياحبيباً وفا بعهود الوفا
قد بلغنا المطاف أفلا من نوال *** وفتى الوجد خاف من بلوغ المحال
موشح قف بنا:

أبيات رثائية مؤلمة بلحن شجي، للاستماع (هنــا).
قف بنا يا صاح نبكي المدنا *** بعد من قد كان فيها سكنا
ونـنـادي فـي فراغ مـقـلـق *** بعدهم في دارهم وحَزَنَا
طـالـمـا كنـا بهـا في دَعَـة *** نجتني في قربهم ما يُجتنى
موشح زمان الوصل:

أبيات رثائية بديعة بلحن أندلسي فاخر، للاستماع (هنـــا). 
جــادك الغيــث إِذا الغيـث همـى *** يــا زمــان الــوصل بــالأَندلسِ
لـــم يكــن وصْلُــك إِلاّ حُلُمًــا *** فــي الكــرى أَو خُلسـة المخـتَلِسِ
كانت تلك سهرتي مع زمنٍ أندلسٍّ مضى، مضى تاركاً خلفه الذكريات والحكايات وألحان الموشحات، ولا أجد خاتمةً تليق بهذه السهرة إلا هذه الأبيات العجيبة لأندلس الحبيبة ( هنـــا ). 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المرأة من منظور "زمّليني"

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

مواليد التسعينات | بين القناعات والتحديات