على حائط ذكرى الطفولة - صور وتصوّرات
بالكاد
تفتح عينيها، الخادمة تحاول إيقاظها بثقل رغم جسمها النحيل وجرمها الصغير الذي لم
يتجاوز السبع سنوات، تتناول الإفطار بنعاس، تودّع أخواتها اللواتي يذهبن معها إلى
ذات المدرسة لتدخل كل واحدة منهن في صفّها، تستمع للدرس، تحين الفسحة، تنتظر بملل
عند باب صف أختها الكبرى لتشتري لها شطيرة وعصير، وبعد ذلك تعود للعب مع صديقاتها،
تقفز، تصرخ وتضحك، بكل ما أوتيَت من طفولة، ذكيّة ومجتهدة وهادئة وخجولة، لكنها في
المقابل اجتماعيّة وتهوى إثراء علاقاتها بالثرثرة واللعب، تعود إلى منزلها والذي
كان حينها بيت شعبي لجدها لأبيها في أوّل الحي، تعود إليه سيرًا على الأقدام برفقة
أخواتها وبنات عمها، تستقبلها جدتها ذات الوجه المنير الأبيض المستدير، لتكمل
اللعب في الحجرة الداخليّة، على مفارش السرير، بالقفز واللهو وإهدار ما تبقّى من طاقة
لديها. فتاة تهوى اللعب، والعيش في الخيالات، مما يهبها إمكانيّة بث الروح في كل
شيء حولها، في الجمادات، والجدران والثياب، بل وحتى جديلة شعرها، التي تتمثل لها
كدمية عنقاء ذات خصلة ممشوقة، تمارس اللعب في الدهاليز، والسطح، بالعصيّ والدمى
الصوفيّة أو البلاستيكيّة وبزجاجات عطور والديها على منضدتهما العريضة أمام مرآة
الزينة، فالزجاجة ذات العنق الطويل هي الأم، والزجاجة العريضة هي الأب، والقوارير
الصغار هم الأبناء، وتبدأ بسرد الحكايات والأنباء، لوحدها، هكذا، تجيد العيش
لوحدها، فأصواتها المتبدّلة حسب الشخصيات، والصور المتمثلة في خيالاتها، ونبض
قلبها المنتشي حماسةً، يكفيها، يكفيها لتغوص في أعماق تلك العوالم، والتي لا يقطع
انسجامها فيها سوى صوت جدتها المنادي لأمها استنجادًا بها لخوفها على تلك الفتاة
التي تحدّث نفسها، وتتساءل مع من تلعب وما كل تلك الأسماء التي تذكرها وتضحك معها،
فتجيب أمها الجدة الحنون بأن ابنتي تلعب فحسب، تحب أن تلعب.
ذلك
البيت الشعبي الفسيح الذي يبدأ بدهليز ضيّق ثم ينفتح على الحويّ (مساحة واسعة
تحيطها غرف البيت) الذي يظلله منور ذو قبّة مستطيلة واسعة ينفذ منها النور، كان
مرتعها، قضت فيه سنوات طفولتها الأولى، والتي كانت تسافر منه إلى العوالم الخارجية
من خلال رسوماتها للأكواخ والتلال وخيالاتها وشاشة تلفاز صغيرة تبث أفلامًا
رسوميّة مثيرة لأبطال طيّبي النوايا، مغامرين، يجوبون العالم لتحقيق أهداف سامية، كالانتصار
على الشر، أو السعي لنشر الخير. تشاهدهم، وتود لو أنها كانت معهم، لعبتها المفضلة
هي المغامرة، أن تحمل حقيبة خلف ظهرها، وتقطع المسافات تحت ظل السماء وعلى هضاب
الأرض في خيال واسع وشيّق، حتى صادفها الواقع بقرار السفر بعيدًا بالطائرة، إلى
إنجلترا، ذلك السفر الذي حدث لها في توقيت ملائم لشخصيّتها الطريّة وذهنها
المتفتّح ذو الثمان سنوات. وكان نقطة التقاء خيالها بالواقع الذي تحلم به، حدث ذلك
في لحظتها الأولى التي فتحت فيها باب المنزل الذي ستسكن فيه مع أسرتها، منزل على
هيئة كوخ كبير، ذو سقف مثلث بقمّة مدببة ونوافذ زجاجيّة بأُطر بيضاء وستائر مزركشة
وورد جوري أحمر يتسلّق على الجدران الخشبيّة المطليّة بشكل طوب بنّي، تمامًا كالذي
كانت تراه في الشاشة أو ترسمه في الكُرّاسة، وفي تلك اللحظة فقط نطقت بدهشة: الله!
*صورة خارجية لمنزلنا في انجلترا*
سحرها
المكان، أعجبها لون السماء، والحديقة الخلفيّة والأماميّة للمنزل، كما هو في سائر
المنازل عمومًا المصطفّة في الحيّ، كان يلفتها سكون وظلمة الحيّ من الساعة الثامنة
أو التاسعة مساءً، ويلفتها شكل والدها الجديد بالسترة الزرقاء القاتمة وبنطاله الرمادي،
وكل شيء يبدو مختلفًا عمّا رأته وعاشته، كانت تلفتها الطبيعة، وتبدّل أغصان الشجر
في كل موسم، ومعايشتها الفصول الأربعة بكل تجلّي وبهاء، ففي السنة الأولى التي
وصلت فيها، كانت الأرض بيضاء بفعل الثلج في مطلع السنة الميلاديّة، وفي الخريف
تتناثر كل أوراق شجرة حديقة المنزل الخلفيّة في الأرض، محدثة منظرًا أثيريّ، كان يلفتها
أنه بإمكانها أن تستلهم من كل تلك التفاصيل بدل أن تشاهدها من بعيد، في أطر شاشة
أو في حكاية تختلقها.
في
أوّل يوم لها في المدرسة الإنجليزيّة الجديدة، والمعلمة تعرّف بها أمام الطلَبة
والطالبات في الصف الثالث الابتدائي، أحست بأنها مختلفة، بجديلتها البنّيّة وغرتها
القصيرة ووجها القمحي المتفتح، مختلفة عن الوجوه الشقراء، والعيون الزرقاء،
والملامح الموشّحة بالزهري، ذلك الاختلاف لم يقتصر على الشكل، بل في كل شيء، في
السلوك واللغة والشعور، ذلك التباين جعلها تحتفظ بحقيقتها في الداخل، فكانت تعيش
في داخلها خلاف ما تعيشه في الخارج طيلة اليوم الدراسيّ، تتحدث وتعلّق وتضحك لكن
قليلًا، والأغلب تعلّق على المواقف والسلوكيّات في داخلها، تجيد الاحتفاظ بمشاعرها
وتخزين بوحها حتى نهاية اليوم وعودتها إلى المنزل مهرولة لعتبة الباب و هي تنادي
والدتها لتحكي لها كل ما حدَث، والتي تنصت لها باهتمام لتهدّئ من روعها أو بؤسها
أو سعادتها أو حماستها، فهي في الصف تبدو هادئة جدًا في هيئتها، لكن عقلها ينبض
بسرعة، وعينيها تجوب المكان، والناس، والمعاني، تنفر، وتنسجم، تُجرح، وتلتئم،
تقارن، ترفض، تتفق، تعيش بين عالمَين، ما كانت، وما هي عليه الآن.
كانت
تعيش في تلك المدرسة أشياء لم تتوقعها أو تفكر بها يومًا أو تتخيلها، أشياء جعلتها
تدرك بأن الحياة أكبر من حدود موطنها وعاداتها وما تؤمن به. ففي الصباح، تجلس في
الصف لوحدها، تسمع أصوات زملائها وزميلاتها في القاعة الكبرى من بعيد، وهم يؤدّون
نشيد صلواتهم لمريم العذراء عليها السلام، إلى أن تأتيها معلّمة مخصصة ذات شعر
مجعّد ونظارة مستديرة ووجه باسم تقضي معها القليل من الوقت ريثما تنتهي صلواتهم،
تحدثها وتسلّيها بأسئلة فضوليّة عن حياتها ومسكنها في موطنها من خلال خريطة كبيرة
مثبته في جدار الصف، أو تلقي عليها بعض الدروس البسيطة لتعلّم اللغة الإنجليزيّة،
أما بقيّة اليوم فتقضيه بشكل طبيعي في الصف، وتحب الحصة الأخيرة حين يتحلّق الجميع
حول المعلّمة في جلسة أرضية لقراءة قصّة لا تفهم جلّ معانيها لكن تفاعل ملامح
المعلّمة أثناء سرد الأحداث كان يثيرها. تحب أي تفاصيل تشعرها بالانتماء مع البقية
والانسجام والحريّة والانطلاق، كحصة الرياضة، فتتقن قوانين اللعبة أو التمرين وتمارسها
بمرح مع الفريق وتتفاعل، أما في حصة السباحة التي لا تشارك فيها كانت تشعر بالتحفظ
والانعزال، فقد كانت تجلس على مقعد منفرد وهي تمسك بكتيّب أو قصة، تظل تتأمل
الصفحة أو ترمق الطلبة والطالبات وهم يرتدون ملابس السباحة ذات الألوان الفاقعة
وهم يلهون وسط الماء وتحت أشعة الشمس، في الواقع لم تكن تشعر بالحزن أو النبذ أو بالرغبة
في ممارسة ذلك، بل كانت تتأمل الاختلاف وتحاول أن تفسّر السلوكيّات والمظاهر والمشاعر،
لم تكن تعلم أن هذه المواقف جعلت منها شخص يؤمن بالمبدأ لا الخيارات المتاحة، ويشعر
بشيء من الاكتفاء وإن لم يكن يمتلك ما لدى الآخرين، فجوهره أثمن ما لديه!
في
نهاية أحد الأيّام المدرسية المرهقة، كان الضجيج يعم الصّف، والجميع يحمل أمتعته
وكتبه ويتهيأ للخروج، وكانت تلك الطفلة التي تشعر بالغربة طيلة النهار منهكة وتغلق
سحّاب حقيبتها بثقل، وفي لحظة التفاتها نحو باب الصف، لمحت وجه والدها من نافذة
الصف وهو يبتسم لها ويلوّح بيده تجاهها وهو يقف في الساحة الخارجيّة والذي ربما
كان يتأملها منذ وقت ريثما انتبهت له، تفاجأت، فليس من عادته أن يدخل إلى داخل
المدرسة، بل ينتظرها عند الباب الرئيسي للمدرسة، أحسّت بأنها وجدت شيئًا ضائعًا،
حملت حقيبتها التي غدت خفيفة جدًّا في تلك اللحظة، وهرولت نحو والدها بسعادة غامرة
ليذهبا معًا للسيارة وهو يحدثها ويسألها عن حالها، كان يعلم عن كل ما يدور ويتحدث
مع إدارة المدرسة بعناية عن الأمور التي تهم طفلته وعن خلفيتها وتربيتها، ويتيح
لها أن تعايش ذلك المحيط إيمانًا منه بأنها بالتجربة تتشكّل، وبالمبدأ تتجمّل، و
بالمراقبة الذاتيّة تنمو و تتزن وتتعقّل.
في
المقابل، كانت تقضي يوميّ نهاية الأسبوع في المدرسة العربيّة لمتابعة منهج دراستها
الأصل، في الواقع لم تكن مدرسة، كانت مسجدًا بأربعة غرف وطاولات يتم طيّها بعد
انتهاء اليوم الدراسي لإتاحة المكان للمصلين، أما المقاعد فهي كذلك يتم طيّها
وحملها برفقة كل طالب أو طالبة إلى منازلهم، أكملت في هذا المسجد سنوات
الابتدائيّة كاملة قبل أن تنتقل لآخر مختلف للمرحلة المتوسطة، واجتمعت فيه مع
مختلف الجالية الإسلاميّة، كان لديها معلمات وزميلات وزملاء من ليبيا ومصر
واليابان والكويت والأردن وعُمَان والعراق وغيرها وكذلك من موطنها لكن من مناطق
أخرى كالقصيم وجدة والرياض. ذلك المسجد الصغير، كانت تظهر فيه على حقيقتها، تتحدث
بلغتها، تتواصل بشخصيّتها وهويتها وهواياتها، تلهو بمرح وخفّة، وتنسى أمر الغربة
تمامًا، لكن ضيق المكان وافتقاره إلى ساحات خارجيّة ومرافق للعب كان يصيبها
بالملل. ذات نهار أتى المسؤول أبو طيبة (زوج أحد المعلمات العراقيات)، وفتح باب
المسجد وأذن للجميع بالخروج للهو في التل المجاور للمسجد، في ذلك النهار ركضت
كثيرًا وقفزت بشدّة، كفراشة خرجت للتو من شرنقتها، تتنفّس الحُريّة، وترمي بثقل القيود
في الهواء. فهي طفلة تحب أن تعيش لحظة الخيال في الواقع، تحب أن تكون حُرّة فيه
كما في خيالها، فعقلها يغمض عينيّ إدراكه ليرى ما يود أن يراه فقط، وينتشي أكثر
حين يطابق المحيط ما تود أن تراه وتشعر به وتنسجم معه، كانت هذه الصفة التخيّليّة
ملجأ أمان لها، وفي في ذات الوقت كانت تسبب لها أيضًا الكثير من الخيبات حين لا
تبدو الأمور كما تود أو تتخيل. لحسن الحظ أنه كانت تصلها إشارات ورسائل عابرة في
مواقفها وحياتها تحاول تنبيهها على ذلك، كجملة قيلت لها كدعابة في الصغر فكانت
درسًا في الكبر. ففي ذات صفها في المدرسة العربيّة كان يدرس معها طفل ذو جنسية
ليبية لأم يابانيّة، اسمه إبراهيم، كانا إذا تشاركا فهم معلومة معيّنة وقام بشرحها
لها بحماسة ونفاد صبر يؤشّر بكفّه باهتمام ويقول لها بلهجة مكسّرة: يــا بُشرى..
فتّحِي عَقلِك شُويّ! ظلت تلك الكلمة عالقة في ذهنها، يكرّرها عقلها لها كثيرًا،
وتستشهد بها في سرّها كلما خانها عقلها الخياليّ مع خيبات الواقع.. فتحي عقلك يا
بشرى.
خلال
سنوات كثيرة بعدها، مضت الحياة بتلك الطفلة، لتدرك أن الحياة سريعة جدًّا، ولا
تمهلنا الكثير لكي ندركها أو ندرك الحكمة من تجاربنا فيها، سريعة لدرجة أننا نشعر
بأن طفولتنا لم تزل فينا، وبأن كلماتنا وأصواتنا اليوم هي امتداد لمناغاتنا،
وضجرنا من الظروف التي لا نريدها هو امتداد لنزعة إصرارنا على لعبتنا التي نريد،
وبأن خيباتنا من الواقع امتداد لخيالنا الغض الجميل. تفكرت في تلك الذكريات فأوحت
لي بالكثير من الوقفات، منها، أن التشبث بنظرة معيّنة لتجربة معيّنة نود خوضها
دليل على المثاليّة والرغبة في السيطرة والعيش في الخيال والتصوّرات أكثر من
الواقع ومعطياته، أحاول دائمًا أن أفتح لعقلي أكثر من خيار واحتمال بماذا لو؟ وكيف
يبدو الأمر خارج ذهني وشعوري، كيف يبدو على حقيقته الحياتيّة المحببة والغير محببة
لي، كيف تبدو الأمور فعلًا؟ وليس كيف تدور في داخلي وفي خيالي ووفق رغباتي. ارتفع
منسوب توقّع غير المتوقّع عندي في هذه الحياة، فليس بالضرورة أن تحدث الأمور كما
نتخيل، قد تحدث فوق ما نتخيّل، وهذا جميل، وقد تحدث أدنى مما نتخيل، وهذا أيضًا
جميل، وليس مخيّب للأمل، لأن الخيبة قد تكون أمرًا طبيعيًّا لكننا نحن من رسمنا
حدود له، وإلى أين يمكن أن نعتبر ذلك لأمر مبهجًا او مخيّبًا لنا. لحظت بأنني
منحازة كثيرًا لرسم التجارب في خيالي قبل حدوثها، لذا حين تحدث أقلق بشأن تفاصيل
كثيرة ودقيقة يجدر بها أن تطابق معايري الخاصة، رؤيتي الخاصة، مشاعري الخاصة،
توقيتي الخاص، مطابقةً تطمئنني، لكنني وجدت بأن هذا الأمر يحملني ما لست بكفيلة
به، فأنا حسبي أن أفكّر، ولست مخوّلة لأن أقضي وأدبّر. الطفلة التي كانت تتخيّل
كثيرًا علمت بأن الخيال مدعاة للتفكّر والإدراك لا إغلاق العقل عن الواقع وإلزامه
بحدود بشريّة نابعة من ظنون لا تحيط علمًا بالكون وما فيه والحياة وما فيها،
واعتبار أي شيء خارج تلك الحدود مصدرًا لزعزعة الأمان أو القلق، قد نرى الخيال آمن
جدًّا، لكنه أكثر خطورة مما نتصوّر، حين يرفض الواقع ويتعامى عن حقيقته، وحقيقة
الدنيا، ومفاجآتها وسرعة أحداثها وتقلبها من الأفراح إلى الأتراح أو مزجهما سويًّا
في لحظة واحدة، وبأن ظاهر الأشياء ليس بالضرورة أن يشي بباطنها، كما هو الأمر في
الأعين المتلألئة لأبطال قصص الكرتون من مناصري الخير، وسهولة تمييز الشر والكمائن
والنجاة منها، الواقع ليس كذلك، فاخرج من خيالك وفتح عقلك.
كم
نحتاج من الوقت لكي نكبر؟ أو لكي نعي بأننا نكبر، بأنني الآن أنهض على صوت منبهي
كل يوم دون الاستعانة الأولى بأحد، وأنني لم أعد أستند على مبرر الاعتماديّة
لمسؤوليّاتي الذاتيّة كما كنت أنتظر عند صف أختي لتقوم بشراء الشطائر لي، وأنني لم
أعد أحكي كل شيء لوالديّ وبت أقتص من الأحداث والأحاديث بما يراعي حالتهم العمرية
والنفسية وانشغال بالهم علينا، وبأنني أستطيع العيش مع كل الظروف المقدّرة لي، كما
كنت أخلق ألف سبب وسبب لجعل تلك الجمادات كائنات ذات أسماء وهويّة لتكون بطلة
الحكاية، وبأنني أؤمن بأن الحياة أوسع من توقعاتي وخيالاتي، وبأن الواقع أكثر
إبهارًا من أي صورة يمكن أن نتخيّلها، ليس في هيئته ومظهره، بل في عمقه وجوهره،
وكيف له أن يصنع منا أشخاص أفضل وأجدر بأداء الأمانة الإلهيّة قبل أي رغبات
بشريّة، وبأن الاختلاف منفذ لتقبل تناقضات الحياة والشعور معها بالائتلاف. في
الحقيقة، كثيرة هي التفاصيل التي تشكّل المرء منذ أن تنفخ فيه الروح في رحم أمه
وحتى لحظته الآنيّة، وما جال في ذاكرتي من كل ما كتبت يعتبر قطرة من بحر واسع
وعميق، نتذكر ما نتذكر منه ويبقى الكثير الذي نسيناه أو حتى لم نفهمه أو نجهله
عنّا وعن دوافعنا لكل شيء يمثل نسختنا الحاليّة. أتأملني اليوم، وأستوعب أن كل شيء
يكدّر صفوي أو أجد عرقلات لتقبله أو تخطّيه هو نتاج سلسلة ممتدة من نسختي الصغرى،
وحين أعود للوراء وأتأمل مثل هذه الذكريات أصل الأمور ببعضها، أصل الممارسات
بالدوافع، والعرقلات بالمخاوف، والمقاومة النفسيّة بالخلفيّة التربويّة والعكس
صحيح، فأكون مرنة مع كثير من الأشياء التي لم تشكل خوف أو تهديد لي. ذلك يأخذ
وقتًا طويلًا، أطول مما نتوقع، فالبيئة التي عشناها، لم تزل تعيش فينا، وتحرّك أفكارنا
وسلوكيّاتنا، بعضها يتصادم مع تجاربنا فيكون بحاجة إلى النظر والإدراك والتغيير،
وبعضها يمهّد لنا خوض تلك التجارب بسلام، المحك هو أن نكون ذوي رؤية للنفس وتزكية
لها وأكثر معرفة بها.
عنّي، بشرى الصغيرة دائمًا تلهمني بعودتها لي
مجدّدًا، بثرثراتها القديمة التي تنفض الغبار عن أمور عصيّة على النسيان فأجدها في
كل مرّة أكثر جوهريّة وأثمن مما مضى، فالمبادئ في الصغر أشبه بالتغذية التي
نتشربها وتستقر في كل خليّة فينا، ننمو بها ونستوعب من خلالها ونفسر الأمور وفق
نظرتها، ومن الصعب جدًّا أن نفصل ما كنّا عليه عمّا نطمح إليه! عمليّة الفصل
(التفكّر في الدوافع الماضية التي تجعلك تتصرّف بالطريقة التي أنت عليها الآن)
تحدث تدريجيًّا، حسب المراحل المفصليّة والقرارات المصيريّة أو الأحداث التي نجد
أنفسنا فيها أقرب إلى الانهيار أو الحيرة والشتات، عملية الفصل تلك لا تحدث دفعة واحدة،
تحدث تدريجيًّا حسب معطيات تلك المرحلة وحسب المعاني والمشاعر التي تُضرب أوتارها
وتهتز وتبدأ بإصدار صوت بالداخل. شكرًا للطفولة، ولذاكرتها الخصبة، التي نزرع فيها
تجارب الأمس واليوم والمستقبل، شكرًا لرفاق المدرسة وللمدرسة، شكرًا للبيوت التي
عبرناها، والدروب التي قطعناها، ولكل التفاصيل التي ذكرناها أو نسيناها، فأنا أشعر
بإجحاف كبير بكتابة تدوينة عن ذكريات ماضي حياتي، لأنها أوسع وأدق وأعمق وأكثر
وأكبر من أن تُحكى، لكنني سأظل أعود لها وأكتب عنها، فأنا أحب ربّيَ الله، و أحب كيف
يربّينا، ويرعى الطفل الحائر فينا، وأتأمل ذلك في حائط الطفولة وما فيه من الصور والذكرى،
لأجل العِبرة والذكرى، ثم إنّي أحب بشرى.
جميلة جدًا جدًا :))
ردحذفكثيرًا ما أجد نفسي بين سطورك وفي حروفك🌸
شكرًا لهذه الجولة الممتعة والتوقفات الثريّة
حفظ الله روحكِ نقية طاهرة كما بشرى الصغيرة، ورزقكِ من فضله وإحسانه ما تحبين وأكثر، وأكثر.
ما أسعدني بأن تكون سطوري مرآة لقلبك!
حذفشكرًا شكرًا لهذه الدعوات التي أنارت فؤادي، آمين وإيّاك 3> 3>