زيارة إثراء - ماذا يصنع بنا الأدب؟

 


الجمعة ما قبل الماضية سنحت لي الفرصة لزيارة مركز إثراء العزيز على قلبي، وذلك لحضور الحفل الختامي لمسابقة أقرأ، كان الجو مفعم بالزحام الجميل والشعور الملهم باتحاد الوجهة، نحو الأدب والقراءة، فالكل يحضر اليوم تحت سقف واحد لتذوّق تلك النكهة الخاصة، نكهة الأدب التي أفضلها على ملذات أخرى كثيرة.

عند دخولي للمركز اتجهت لأخذ بطاقة المسرح مع حقيبة تحوي دليل برامج وفعاليّات الحفل. ومن ثم أخذت بالتجوّل قليلًا ريثما يحين وقت بدء فعاليّات الحفل، أحزنني إغلاق متجر إثراء واستبداله بمرافق أخرى، علّها تكون مؤقته ويعود المتجر كما كان. بعدها، اتجهت للمسرح وفور دخولي كان الجوّ مهيبًا، الإضاءة الزرقاء التي تتخللها خطوط مصابيح بيضاء وزهريّة، والبث الإعلامي، والمدرّجات المكتنزة بالحضور. أخذت مقعدي وبدأت بالتوثيق ومن ثم ابتدأ الحفل.

أولى فقرات الحفل كانت جلسة حواريّة بعنوان لماذا نقرأ الأدب، وهي أكثر ما شدّني للحضور، الجلسة كانت بتواجد المحاور طارق خواجي والدكتور سعد البازعي والشاعرة روضة الحاج والكاتبة بثينة العيسى. أحببت تنوّع الضيوف والذي انعكس على تنوّع الأطروحات والآراء ووجهات النظر في موضوع الجلسة والذي جعلني لا أفوّت تدوين كلام الضيوف في مسودّتي الورقيّة المرافقة لي.


لماذا نقرأ الأدب؟



حين طرح طارق خواجي هذا السؤال على الضيوف، أصغيتُ بروحي للإجابة، فكيف سيكون التعبير عن المغزى من قراءتنا للأدب من منظور ثلاثة أشخاص خاضوا غمار بحور أدبيّة مختلفة بين النثر والشعر والرواية، فكان الطرح ماتعًا مثريًا ومقنعًا وملهم. ابتدأ الطرح بالدكتور سعد البازعي والذي أجاب من منظور المفكر الأدبي الذي نهل في خبرته من عذب اللغة وآدابها سواء الإنجليزيّة أو العربية، فقال بالمعنى أننا نقرأ الأدب لأنه يساعدنا على التعبير، فالأدب يقول عنّا ما تقوله الحياة، وليس المقصود هنا مضمون القول بل كيفيّة القول، ويعني بذلك أن الأدب يعيننا على معرفة كيفيّة تشكيل لغة شعورنا تجاه تلك الحياة. أحببت إشارته إلى مقال بعنوان أصل العمل الفني للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر والذي أشار فيه إلى أن الفن ومن ضمنه الأدب يُقرأ لإزالة الشيئية عن الأشياء وإزالة الألفة والعاديّة من الكلمات. فكما يشير البازعي، أن ما يميّز الأدب هو كونه أدب بالمرتبة الأولى، فهو ليس علمًا أو فلسفة أو معرفة، بل هو أدب أوّلًا قبل كل شيء، والذي يتضمّن في نهاية المطاف أحد تلك المسارات، فهي ضمنيّة ولكنها ليست المغزى الأساسي لقراءته، فالمغزى الأساسي لقراءة الأدب هو أدبيّته!

في الضفّة الأخرى، أجابت الشاعرة الملهمة روضة الحاج من منظور الشعر بعد طرح سؤال لماذا نقرأ الشعر، فكان حديثها قريبًا من قلبي وذائقتي كوني أحب الشعر كتابةً وقراءة، فقالت نحن نقرأ الشعر لأن المكان الذي تصل إليه القصيدة في الذات لا يصل إليه سواها، وكانت محقّة في هذه الإجابة البلاغيّة، فبرأيي حين تقرأ معنى في مقالة ثم تقرأ نفس المعنى في بيت من قصيد يصيبك شعور مختلف ممزوج بالنبض القلبي والتأثر الوجداني والإحساس الرفيع لشدّة مقاربة المعنى للذات وتصوّرها عن الشعور أو المعنى المشار إليه في القصيدة وصدق تأثرها. وأضافت روضة بأن الشعر يحتفظ بطزاجة اللغة وأقصى تجلّياتها، ويمتلك تأثير دوائي وعلاجي يمكننا أن نتشافى به كونه يؤثر في عمق النفس. وختمت حديثها قائلة بأن العلوم بمختلف أنواعها تقول ظاهر الأشياء، بينما الأدب والشعر يقول باطن الأشياء، وإذا أردت أن تفضي للإنسان وتعرفه حق المعرفة، فاقرأ الأدب!

واختتم هذا التساؤل مع الكاتبة بثينة العيسى والتي أجابت بدافع تجاربها الشخصيّة مع الأدب وقراءته والانخراط في عالمه، وأحببت بساطتها وتلقائية حديثها، فليس أجمل من أن يتحدث المرء بدافع شعوره الصادق تجاه موضوع ما غير متحيّز للتنظير أو الإقناع. تقول بثينة بأنها بعد قراءة الأدب لم يعد العالم بالنسبة لها أبيض وأسود فقط، بل بدا بدرجات لونيّة مختلفة، رماديّة ومتباينة وقاتمة وخلاف ذلك، وهي تشير هنا إلى أن الأدب أضاف للحياة منظورات مختلفة ومتباينة في رؤيتها كما تصفها بقولها: أصبحت الحقيقة بالنسبة لي بعد قراءة الأدب متعددة الأبعاد، وأثر عليّ ذلك بجعلي أكثر تأنّيًا في إطلاق الأحكام وأكثر بعدًا عن العجالة والاندفاعيّة كوني أمتلك خلفيّة أخرى للأمور، وجعلني أحتفي بطبيعة وجودي وكينونتي في هذا العالم المدهش، وفي كل مرة أقرأ فيها الأدب، أعود للعالم والواقع بشكل جديد. أحببت وقوفها على تعليل قراءة الرواية بالتحديد كونها تقع ضحيّة النقد والاستخفاف بالقول بأن قراءة الروايات محض مضيعة للوقت، فنوّهت على أن: قراءة الروايات تحديدًا كصنف من أصناف الأدب تعطي قدرة فائقة على التخيّل والتصوّر والتي تؤدي إلى فهم الواقع من مختلف أطيافه وبقاعه، فهي ليست تسلية قشرية أو سطحية، بل تجربة تحوّل عميق لفهم الإنسان وعلاقته بالعالم، فأنا حين أقرأ غير الأدب أقرأ عن الفكرة، بينما حين أقرأ الأدب فأنا أكون الفكرة ذاتها، فالأدب يُقرأ بكل الحواس ( وهنا طربت لوصف بثينة جدًّا).

استمرت الجلسة بطرح أكثر من محور وكان ختامها عن مستقبل الأدب وهل سيكون مشرقًا أكثر من اليوم، تقول بثينة بأننا نسمع كثيرًا عن أن الأدب أو القراءة سوف تنحسر، لكننا لم نزل نرى بأن رقعة القراءة تتسع بالتوصيات المحبّة التي يمليها قارئ لقارئ آخر. أما روضة فتقول بأن القراءة والأدب هي أحد وسائل الإعلام، ووسائل الإعلام عمومًا لا يلغي أحدها الآخر، وأقرب مثال هو التلفاز والمذياع، فبعد ظهور التلفاز، لم يلغِ ذلك وجود المذياع واستقلاليّته، بالعكس، فالإذاعة مستمرة إلى اليوم بل تطوّرت وتنامت، والإقبال على البودكاست في الوقت الراهن أقرب مثال لاستمرار تنامي الإذاعة. كان ختام هذا المحور مسكًا مع الدكتور البازعي حين قال: عاطفتنا وإنسانيّتنا هي ما تجعل الأدب يستمر، لأنه باختصار يُفصح عنا!


أمسية مع البحر:



في ذات الليلة الأدبيّة حضرت أمسيّة للشاعر البحريني قاسم حدّاد تحت عنوان البحر والتعديل، كانت أمسية هادئة مع صوته الرخيم وحضوره الحنون وكلمته الواقعة في قعر القلب محدثةً صدى للذكرى وأصل المجرى لمختلف حكايات البحر، البحر والبحرين، البحر والأنبياء، البحر والسماء، البحر والآباء، والكثير من المعاني التي سبح بنا معها بتجديف هادئ أتقنه الموسيقار ابنه محمد الحدّاد على خشبة المسرح نفسها.

هنا إحدى قصائده التي ألقاها في الجلسة، أذهلتني جدًا، الرمزية فيها آية في البلاغة:

يدعوكم البحر

إلى الوليمة

تذهبون في مواكب

وفي مراكب

فتأتي الريح مواتية لقلوعكم

تحملون الزاد له

وتنتظرون الهدايا

نساؤكم لكم

وأولادكم له

تقتسمون معه الحياة

وينال الموت عنكم

في النصر والهزيمة

يطلع الإعصار عليه

فينالكم العصف من حيث لا تعلمون

يتلاطم بكم

فتظنون به الظنون

يذهب في التلاشي

فيكون منكم الذائب والتائب والغائب والمفقود

والعائد منكم يلوذ في خشب مقصود

 

أبكانا حين ذكر والده وذكرياته في المنطقة الشرقية التي نبشتها زيارته لإثراء ليعود إلى ما قبل 60 سنة من حياته، أضحكنا حين أنهكه الشعر فسأل المذيع كم بقي من الوقت، شاعر لطيف الحضور ثقيل التأثير، لأول مرة أنصت لشعره ولم أقرأ له من قبل، كل القصائد التي ألقيت في الجلسة كانت فريدة، كانت عبارة عن مشاهد مرئية ومسموعة ومحسوسة، قطعة فنّية وفيلم احترافي، دون طاقم ومخرجين وممثلين، هي الكلمة، الصورة والصوت والمعنى.


توثيق واحتفاء أدبي:

لم يحالفني حظ الحضور لليوم الثاني من فعاليّات الحفل ومشاهدة المتسابقين وتحكيمهم وإعلان الفوز، لكن اليوم الأول كان موفّقًا في الفعاليّات المطروحة واختيار الضيوف، ويظل إثراء يثريني دائمًا. فبعد حضور مواسم أدبيّة أو ثقافيّة والتواجد فيها سواء في إثراء أو غيره، أشعر بأنني قد شحنت مصدر إلهام بداخلي، أو تلقيت جرعة من نشوة اهتماماتي. فهناك فرق بين أن تعيش جوك الخاص في اهتمامك وبين أن تتشاركه على نطاق واسع ضمن مجتمع معيّن.

فعلى سبيل المثال، حين كنت أنصت لجلسة لماذا نقرأ الأدب، وتستوقفني جملة وأشعر بالتصفيق بداخلي، لوهلة يصفق الجميع معي كوننا شعرنا بنبضة الإعجاب سويًّا، وهذا هو صدى الاهتمام والإلهام، كذلك الجلسة الشعريّة، حين تطرب وتقول الله! لا تتعجب من صداها من أشخاص آخرين في المقعد الخلفي من القاعة. أعشق تلك الأجواء، ذلك الترابط الأدبي والقرائي في المعنى وتذوّقه وأحتفي دائمًا بتواجدي فيها.

ولعلّي أوجّه سؤال الفعاليّة لي، لماذا أقرأ الأدب، ولماذا أنتشي مع الأدب، ولماذا أشعر بخفّة وانسيابيّة مع الأدب، إجابتي هي: لما يصنعه بي الأدب، الأدب يصنع طلاقتي وفصاحتي، يطابق وتر ذائقتي وطربي بالكلمة والمعنى، يراقصني على السطور، ويجول بي فوق البحور، فألج عوالم خفيّة، تتجلّى فيها أشياء عميقة، تلامس عمق شعوري وتحتضن حاجتي للتعبير، وتهبني أحقية العيش والتأمل والتفكير، تسقيني من المعنى ما يكفيني لأن أكون، في لحظةٍ قدسيّة صاخبة بالسكون، الأدب مأدبتي، ونزهتي وأريكتي، ونافذتي نحوي ونحو مالم أكون.

بالنسبة للتوثيقات في إثراء لم أفضل إدراجها هنا كصور ومقاطع متفرقة، فجمعتها على عجالة في مقطع يوتيوب بتجميعات متواضعة للحظات من فعاليّات الحفل. مشاهدة إثرائيّة ماتعة =)




تعليقات

  1. يتسنى للمرء أن يعيش ذات الشعور لمرات عديدة بقراءته لمذكراتك وكلماتك وأدبك البليغ هذا.. شكراً بشرى

    ردحذف
    الردود
    1. مذكراتي تتخلد بكم وبزياراتكم الطيّبة فالشكر لكم أكيد.. ممتنة 3>

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني