ماذا لو وجدتَ شريكًا؟


 

أكتب هذه التدوينة دون أي إعداد مُسبق ودون أي تصوّر مُسبق عن فحواها وطول أو قصر محتواها، أكتبها فقط لأنني أريد أن أتحدّث عن موضوعها، وسأكون في صفّ قرّائها لأتأمّل برفقتهم إلى أين سيأخذنا هذا الحديث. فأنا أثق وبشدّة بأن الدوافع أثمن من الغايات، وها أنا أكتب بفعل دافعٍ داخليّ.

طرحتُ سؤالًا داخليًّا بكل صراحة عن أثمن ما يمكن أن يقدّمه الفرد في المنظومة البشريّة أو الكونية؟ ما هي البادرة التي ستحظى بالمرتبة الأعلى من حيث السموّ والإنسانيّة ودعم فكرة الحياة؟ فعلاً ماهي؟ لم أُجب تلك التساؤلات بجواب عشوائي، بل كان حاضرًا بعد سلسلة من الدلائل المرتبطة ببعضها لتأكّد صواب الإجابة. أثمن ما يمكن للفرد المساهمة به في حياته هو تكوين أسرة.

نعم، أعظم بادرة إنسانيّة يقدما الفرد هي إنجاب إنسان جديد إلى هذا العالم، وكما سمعت كثيرًا من أمهاتنا الغاليات: "قالوا وش أصعب من خروج الروح، قلنا خروج الروح من الروح". أن تنجب إنسان أي أن يكون لك قلب خارج جوفك، أن تمد فردًا في هذه المنظومة بالحياة، بالتوحيد، بالنور، وبالدعم، وبالإنسانيّة. وكما أنّك أُنجِبت، فهذا هو أثمن ما قد حدث لك، والذي يرتبط بكل حياتك، أسرتك.

 

الجذر الأوّلي:


الدلائل التي أشرت إليها تكمن في مكانة تلك الأسرة المتأصّلة في كل فرد على مدى مراحلة الحياتيّة واختلاف بيئته وتوجّهاته. فالأسرة هي الشيء المؤثّر فينا بشكل أو بآخر لنكون، أو لنقاوم ما لا نود أن نكون، أو لنتخلّى عن فكرة كينونتنا وننغمس في كينونته ، أو أن نكون ما نود بكل ود. كل فرد أيًّا كان، يخضع لهذا التأثير، بغض الطرف عن كيفية مواجهته أو التعايش معه أو الانسجام بكل حب وفق تبعاته. فالفرد ينشأ في محيط أسري ليس من اختياره، ووفق هذا المحيط يتشكّل، ثم يكون راشدًا وقادرًا على اتباع خياراته وتطوير نفسه، وفي رحلة الاختيار والتحسين المستمر هذه تبدأ المغامرة. ألاحظ كثيرًا تلك الأصول المتوالدة عن بعضها في حيوات الآخرين، كيف للأسرة أن تكون العنصر الأساسي في حكاياتهم، سواء أكانت القيد أم الجناح، أساس المعضلات أم حلولها، الأقفال أم مفاتيحها، الأسئلة أم إجاباتها، كل حكاية لشخص تعود لذلك الجذر الأوّلي الذي تفرّعت منه، لا فِكاك.

قد يكون الفرد نقيض تلك البيئة بشكل إيجابي أو سلبي، وذلك يعود لقوّة الاختيار والبصيرة الذاتيّة مجدّدًا، لكن في الأصل تنبثق التحديات والأمنيات والانتماءات كلّها من ذلك الكيان الأسري، حسنًا كان أم العكس. الأسرة هي التي يذكرها الناجح على منصّة تكريم، والأسرة هي التي يرثيها المغترب في أهازيج الحنين، والأسرة هي التي يلقي عليها الفرد المُدَمّر ملاماته وملمّاته، والأسرة هي التي يأوي إليها الباحث عن الأمان، والأسرة هي التي قد يفرّ منها الباحث عن الأمان، والأسرة هي التي يُفخَر بها، والأسرة هي التي قد يُخجَل منها، كل تناقضات الفرد واتزانه تعود في الأصل إلى محيطه الأسري (مع قوّة إرادته الذاتيّة بالطبع)، وفي نظر كلٍّ منا في أسرته وحياته، يتكشّف جوهر إجاباته، وإجاباتنا تلك ستكون كفيلة وكافية للإشارة للدلائل على مكانة الأسرة وتأصّلها في سرائر معضلاتنا، ومباهجنا، وأوجاعنا، وأفراحنا، وذكرياتنا في ماضينا، واستنارات مستقبلنا!


ماذا لو؟


إن كانت بيئاتنا الأسريّة تحتل قدر كبير من الأهميّة في حياتنا شئنا أم أبينا، فماذا عن تشكيلنا نحن لأسرة جديدة؟ لا أظنه يقل أهميّة عن ما ذُكر آنفا بكل تأكيد! فذلك الجذر الممتد فينا قد أثمرَنا، لكن ماذا لو كنّا سنغرس بذرة جديدة، لجذر جديد، نشرف على نمائه ومواسم حصاده والعناية بإنتاجه، ماذا لو؟ تساؤل آخر، يجدر أن يأخذ حيّزه الكافي في إدراكنا قبل كل قرار ارتباط أو قرار تشكيل أسرة إن صحّ التعبير.

 الإشكاليّة تكمن في سطحيّة إدراك تلك الأهمّية، سطحية مؤذية تودي بالزارع وحصاده إلى خيبات كبيرة، أحد جوانب تلك السطحيّة هي اقتصار أهمّية تكوين أسرة على توفير سبل العيش ومؤهلات الرعاية، بينما يقع الاحتياج الأكبر على أهليّتنا، والتي يتطلب توفيرها قبل كل هذه الأمور المعيشيّة، أهليّتنا عاطفيًّا، ونفسيًّا، وتفرّغًا، ورغبةً، وقبل كل هذا، نيّة صادقة، لا اضطرارًا، أو اختبارًا وتجربة، أو تضحية! فإن كان تكوين الأسرة منذ البادية في نظر الفرد تضحية، فكيف لتلك المرحلة أن تبدأ بإحساس بالعبء، وأساس نجاحها هو العطاء الطوعي!

لنلاحظ أننا وإلى الآن لم نأتِ بعد على ذكر العنصر المشارك في ذلك القرار، أهمّية الشريك، أو الطرف الآخر، الأمر حتى الآن يتعلّق بك كفرد، كشخص لديه أحقّية بتكوين أسرة، لكن تلك الأحقّية تُنتَزَع منه فور ثبوت عدم أهليّته، وإن اعتقد خلاف ذلك. هذه الأهليّة تعتمد اعتماد كلّي عليك، لا على فرد آخر، أو شعور عابر، فثمّة شعرة رقيقة بين الإعجاب الاعتباطي، والوعي الارتباطي.

 

الوصول لشريك الحياة المناسب:




قرأت مرّة مقولة لطيفة لا أذكرها نصيًّا لكنها تقول بأنه كيف للشخص أن يختار شريك لنفسه وهو لا يعرف نفسه. وهذه تعتبر أولى الخطوات بعد استيعاب المسؤولية التي تحملها فكرة الارتباط والأسرة. ما يرعب في الحقيقة هو ما يجري في الوقت الراهن من نسب مهولة للانفصال، أتقبّل جدًّا فكرة الحرية الشخصية واختلاف وجهات النظر، لكن الأمر المثير للاستغراب والاضطراب هو أن تلك النسب المتزايدة تُسجّل من مختلف الفئات، بمختلف المجتمعات، بمختلف التوجهات! وكأن الانفصال يعود لسبب أكبر من تلك المستويات، ربما يتعلق الأمر بسطوة الفردانية والمادّية.

الأسرة اليوم تواجه تحدٍّ أكبر من السابق، والذي يتطلب جهد إضافي في اختيار الشريك وبناء حياة معه. وبالعودة إلى خطوة اختيار الشريك، عليها أن تتم بداية من خلالنا، من خلال مصارحتنا بيننا وبين أنفسنا، فمن أنا، وما هي الحياة التي أريد تكوينها؟ وماذا أريد من شريكي في تلك الحياة، وكيف أريد ذلك من شريكي، من هو شريكي؟ (يجب أن نتخيّله ونتصوّر كيف سيشاركنا حياتنا تلك)، وماذا يريد هو مني في حياته؟ ومن الذي لا يمكن أن يكون شريكي؟ ومن سيشاركني المسؤوليّة الأسريّة بقدر متقارب من الاهتمام والأولويّة؟ وما شابهها من المصارحات. فأعظم ما تقدمه للشريك هو معرفتك بنفسك وبتصوّرك عنه، وكم من معضلات تفاقمت بسبب تأخر تلك المصارحات مما سبب هدم مشاعر صادقة وعلاقات حقيقيّة قد توطدت.

معرفتك الذاتيّة بشخصيتك وتصريحك المخلص بها خاصة فيما يتعلق ببناء الأسرة وقيمها، أضف إليها توجّهك الحياتي وأهدافك الأخرى من خلاله، كل ذلك يسهل عليك تحديد ما إذا كانت الشخصية الأخرى مناسبة لك في حال مصادفتك لها بأي فرصة كانت أو بأي شكل من أشكال القدَر الذي يجمعكما. فنحن قد لا نختار الطريقة التي نتعرف فيها على الشريك، لكننا بالتأكيد نملك اختيار ارتباطنا به من عدمه، وهذا ما يتطلبه التأهب للوعي الارتباطي. من المهم جدًا أن تعي من أنت، وكما قيل: إن أردت أن تحب، كن أنتَ!

ملخص كل ذلك يكمن في: كيف أختار شريك حياتي؟ هذا السؤال الذي يجب أن نضع النقاط على حروف إجاباته. ربما تعيننا بعض المحتويات المختصّة والإرشادية بهذا الخصوص، وهنا أحدها، لقاء لطيف ومختصر مع الدكتور الرائع عبدالله غازي بعنوان (كيف تعرف إذا كان الشخص مناسب للزواج)، بالمناسبة، الدكتور عبدالله غازي لديه بودكاست مميّز بمحتوى ذو حلقات قصيرة ورائعة جدًّا كونه يستند على أسس علمية فيما يتعلق بالعلاقات الزوجية، استمعت لكل الحلقات تقريبًا في فترة ماضية. البودكاست بعنوان البيوت أسرار، تجدونه هنا (بودكاست البيوت أسرار)، فيما يلي اللقاء المشار إليه، لقاء قيّم أنصحكم بمشاهدته واستيعابه.



ما بعد الوصول:


إن الارتباط يأخذ أطوارًا عدّة، يبدأ بالحماسة والانبهار، فالاكتشاف ومحاولة التقبّل، فالقبول والانسجام، فالتحدّي ومصارعات الصدمات الحياتيّة المفاجئة، فالتماسك والتفهّم، فالمودّة والرحمة، وإلى غيرها من المراحل المعنويّة. فنحن نتحدث عن شراكة حياتيّة، لا ضمانات فيها، كونها مرتبطة بالحياة، ومن يمكنه أن يضمن الحياة! نحن مخيّرون فقط فيما في أيدينا من إرادة وهبنا الله إياها، وما سوى ذلك من أقدار فنحن مسيّرون فيها، ولا لوم على أي طرف في ذلك إن أحسنَا صُنعا، وقدما ما بوسعهما، فلا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها.

أولى هذه الأطوار لبدء الارتباط هي الرغبة في الوصول، الرغبة في أن نكون معًا، أن نبدأ معًا، ونأكل معًا، ونضحك معًا ونحب معًا، لكن ماذا بعد الوصول؟ برأيي هنا تكمن حقيقة صحة الخيار، فبعد الوصول يبدأ كل فرد باستشعار أنه استنفد مشاعره، ومجاملاته، واندهاشه، أو افتعاله للدهشة، ما بعد الوصول ليس مخيّبًا بقدر ما هو حقيقي، وفي هذه المرحلة بالضبط تُخلق المودّة الحقيقيّة، والرغبة في العطف على الآخر ودعمه وتفهمه مهما كانت الظروف والصروف. كما أن تلك القيم يجب أن تُنعَش وتتجدد بين فترة وأخرى بصدق متبادل. الأمر في غاية القداسة، ومن المؤسف أن تلطّخه المفاهيم الخاطئة والتجارب الشخصيّة والمغالطات أو المبالغات الإعلامية التي نتشربها عنه. هناك تغريدة ذهبية للأستاذ صالح التويجري يقول فيها:

"أغلب الآراء عن الزواج، الطلاق، والعلاقات بشكل عام؛ مجرد حالة [مزاجية/عاطفية] شديدة الخصوصيّة، لها بواعث مخفية [شعورية/لا شعورية] منها تعميم التجربة للحصول على مواساة غير مباشرة عبر المواساة. التأثر بتلك الآراء تطبيقًا، ومنحها صفة موضوعية أشبه باستخدام ملابس داخلية مستعملة."

تنقصنا تلك الفلترة الذاتيّة لتلك الآراء لاستخلاص قراراتنا وتجاربنا واختياراتنا، لا مانع من المشورة الصحيحة والعلم والعمل بالنصيحة الحكيمة، لكن لا يغيب عنّا بأن النوايا شيء حسّاس، وهي أساس أرزاقنا واختياراتنا، لكل فرد نيّته خلال مرحلة الارتباط أو حتى الانفصال، وهذه النية تأتي تبعًا لأمور معقّدة كثيرة ومتشابكة في شخصه وحياته وعلاقاته، هذه النيّة بحاجة إلى الإدراك والعناية والتصحيح، بين الفرد وربّه، ثم نفسه، ثم أولي الاختصاص.


فلسفات لطيفة عن الذات وشريكها:


أميل دائمًا إلى الفلسفات اللطيفة حول اكتشاف النفس وطريقة التعبير عنها، لذا أنا أتابع ABtalks لأنس بوخش. في العديد من حلقاته طرح سؤالين أثارا اهتمامي، سأطرحها لكم هنا وبإمكانكم الإجابة عنها قبل إتمام التدوينة كوني سأصرّح بتفسير معاني الإجابات عليها. السؤال الأول هو: ما لونك المفضل؟ ولماذا؟ (أذكر ثلاث أسباب). السؤال الثاني: ما هو حيوانك المفضل؟ ولماذا؟ (أذكر ثلاث أسباب). الحيوان ليس شرط أن تتبنّاه عندك، لكن الفكرة هي ما هو الحيوان الذي يشدّك، أو تحب أن تتأمله، وليس المقصد اشتراط احتكاكك به.

حسنًا، هنا تفسير السؤالين، السؤال الأول وصفك للونك المفضل يشير إلى وصفك لذاتك، وكيف هي نفسك من الداخل بشفافيّة وصدق دون تأثير خارجي. أما السؤال الثاني يشير إلى نظرتك للشريك، أو تصوّرك لتلك العلاقة، وما تود أن يتحقق فيها. هذه محاولة يسيرة لتفهم كم هو جميل أن تعرف من أنت، ومن الأجمل أن يشاركك شخص ذاتك الجميلة.

بالنسبة لإجاباتي، أذكر في ذلك الوقت أنني اخترت اللون الزهري بدرجة (النود)، هذه الدرجة حقًا تستهويني، الأسباب كانت أن هذا اللون ليس لونًا صريح وكأنه عنصر واحد، بل مزيج من مركّبات ليتشكّل بهذه الدرجة الفريدة والمميّزة، بالإضافة إلى أنه يوحي بقدر كبير من الدفء، وأخيرًا لأنه يُشعر متأمّله بالراحة والهدوء، فهو ليس صارخ. أما بالنسبة للحيوان، أخذت وقتًا للإجابة، فأنا فزعة من أغلب الحيوانات، لكنني توقّفت عند حيوان أليف واحد فقط، وهو من أعشق تأمّله، وأمارس ذلك كثيرًا، ألا وهو العصفور. وحين أردت الإجابة على السؤال بذكر الأسباب، قمت باسترجاع أكثر ما يشدني في ذلك الكائن اللطيف أثناء تأملي له، السبب الأول هو لطافته وخفته وطغيان البراءة فيه، ثاني الأسباب هو انكبابه الدائم على عشّه وصدق رعايته لصغاره وشعوره بالانتماء لأسرته ومسؤوليته وحبه لأفرادها، وآخرها هو طريقة تحليقه مع قرينه، لا يسبق أحدهما الآخر، بل يلتفّان حول بعضهما بطريقة مذهلة متوازية في الحماسة والوجهة والمرح. لم أجد مقطع فيديو يصوّر سلوك التحليق الفريد هذا كما أشاهده في الواقع للأسف، لكنني تذكرت مقطعًا لطيف للغاية لعش طائرين كنت قد حفظته عندي وهو من حساب الأمير فزّاع في انستقرام (faz3):



هذين السؤالين استحوذا عليّ بشكل مضحك، قمت بطرحهما على الصديقات والأقارب وذهلت من الإجابات اللطيفة التي فعلًا تحكي ما بداخل الفرد عن نفسه، جربوا تلك الأسئلة مع من تودون. الأمر ملهم بالنسبة لي، وكم أود كثيرًا أن ألعب دور أنس بوخش مع أشخاص لا أعرفهم وأخمّن شخصياتهم، ربما يحدث ذلك يومًا.

الساعة تشير إلى الرابعة صباحًا، لقد أطلت الحديث، لكنني أشعر بالمتعة حيال هذه التدوينة، والتي قد تكون وقفة تأمل لقدسيّة الإنسان، وارتباطه بإنسان، وإنجابه لإنسان. فالتأمل في هذه الأمور البشريّة يجعلها أكثر إيضاح في نفوسنا وتجاربنا التي قد نقبل عليها عاجلًا أم آجلًا. فهي تحلّ في حينها، حين نكون مهيأين لخوضها بعلم الله، لكن على الأقل، عندما تحدث، تحدث بعُرس بهيج في نفوسنا، مليء بالأنوار والصراحة والرضا، قبل أي شمعة نضيؤها أو أنوار نعلّقها في حضرة العرس الفعلي!



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني