البوصلة المقدسيّة
في
الواقع كنت في تردد قبل نشري للتدوينة مظنّة أن أُصنّف ضمن المعتلين على أعتاب
الأحداث بغية نشر صدى محتواهم أو ما شابه، وهذا ما منعني من نشر هذه التدوينة نفسها
والتي قد قمت بكتابتها قبل فترة طويلة كونها تزامنت مع حدث يخص فلسطين فآثرت
الاحتفاظ بها. واليوم ونحن نسمع بأحداث غزة وما اقترفه الصهاينة المحتلّين من
جرائم فظيعة فيها وفي المسجد الأقصى والمصلّين والمرابطين نشعر بأننا في حاجة لفعل
شيء بعد الدعوات والصلوات، وهو نشر الوعي. وما أثار ذلك هو أحاديث متفرّقة دارت
بيني وبين أختي الصغيرة حول الأحداث الراهنة حول فلسطين، ولحظت أثناءها تدرّج
أسئلتها إلى الوراء وانتقال ماذا إلى لماذا ومَن إلى لِمَن وعودتها للوراء نحو
التاريخ ثم تصريحها برغبتها بأن أحكي لها القضيّة من البداية.
تذكرت
عندها نفسي حين كنت في سنّها أو أكبر بقليل، حين كنت أشاهد الأخبار والأحداث الفلسطينيّة
وكأنها تُبث عن شعب أو أناس غرباء مستضعفون يجب أن أدعي لهم، دون الشعور بانتماء آخر
أكثر ترابط بتلك المشاهد، حتى نمى وعيي واتسعت رؤيتي بفضل طرح العديد من الأسئلة
على من حولي وإشباعها بالمصادر الصحيحة. وهنا عدت لمستند التدوينة وقمت بتنقيحها
ونشرها:
حين
نجس نبض شعورنا تجاه قضية فلسطين نبدأ بالشعور بشيء من التشتت، (بماذا يجب أن
نشعر، وماذا نفعل، وهل فعلًا نحن على حق؟) والذي يصدر من جهلنا بانتمائنا، فالبعض
يغض الطرف كونها قضية شعب، والبعض يجادل فيها كونها قضية شعب كذلك! فمن يغض الطرف
يتخذ بوصلة (يا الله السلامة) ومن يجادل يتخذ بوصلة (التدخل في شؤون سياسيّة)
والهجوم على الشعب أو الهجوم على المحتل. وكلا البوصلتين متذبذبتين كونهما لا
تؤدّيان إلى وجهة ثابتة (لا تتبدّل) بفعل تغيير نمط ذلك الانتماء للقضيّة أو
الأوضاع السياسيّة!!! فمن يغض الطرف اليوم قد يلتف إليه غدًا ويبدأ بالخوض في
القضية لحاجة في نفس يعقوب، ومن يقف مع الشعب اليوم قد يقف مع المحتل غدًا،
وهكذا...
والأمر
باختصار شديد، أن البوصلة المقدسيّة تشير إلى وجهة ثابته يحملها الفرد المسلم منذ
نشأته وحتى مماته، فهي تشير إلى جزء من كيانه، فهي لا تشير على الإطلاق إلى ملف
قضيّة، بل إلى (كيان هويّة). فالبوصلة المقدسيّة لنا كأفراد مسلمين نظل نواجه
صراعاتنا تجاه القدس بشكل دوري كون التاريخ يكرر نفسه (والتي تتمثل في حرقة
التجاهل واللوم أو الرغبة في التغيير أو التعاطف إلخ) هي بوصلة بحاجه إلى إعادة
ضبط لتشير إلى مبدأ سليم، نؤمن به، ونتصرف على أساسه، مهما تطورّت أبعاد تلك
القضيّة، وهو مبدأ الهويّة. وتلك البوصلة لن تشير بشكل قوي إلى ذلك المبدأ بكل
عواطفنا وإدراكنا وإيماننا وردة فعلنا حتى يتم إبعاد كل ما يحيط بتلك البوصلة من
معادن مشوّشة تظل تتجاذب مؤشراتها بشكل متذبذب، فنغدو لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
اتبع
بوصلتك:
كونك
فرد يعتنق الديانة الإسلامية فهذا يحتّم عليك حمل البوصلة المقدسيّة التي توجّهك
نحو اعتبار الأرض المقدّسة والمسجد الأقصى موضع قدّسه الله لإقامة شريعته وهي حق
من حقوقك، كونها تضم قبلتك الأولى في عقيدتك والتي توازي في أهمّيتها أهميّة الأرض
المباركة في مكة والمدينة، والتي لا يحق لأي أحد غاصب أن ينسبها إليه، ويتصرّف وفق
ذلك. وهذا ما يدفع بك لرفض تبديل هذه المسلّمة بأي شكل من الأشكال. فاتبع بوصلتك
واعرف وجهتك وتاريخك، أجل الأرض المقدّسة تحمل تاريخك وتاريخ عقيدتك وأعدائك. بالمناسبة،
إلى الآن يوجد مسلمون لا يميّزون من هو عدوّهم، بل وقد يقفون في صفّه! والجدير
بالذكر أن هذا الوعي بالانتماء المقدسي هو انتماء شمولي، يتضمّن ثلاث مسلّمات تقف
في صف القدس وقفة ثابتة مهما تزعزت الآراء: مسلّمة الانتماء (الإسلامي)، ومسلّمة الانتماء
(العربي)، ومسلّمة الانتماء (الإنساني)، فالقدس قبلة المسلمين الأولى، وحق الأمّة
العربيّة، وصوت الإنسانيّة الصادر من التاريخ الأصل.
البوصلة
المقدسيّة تقدّس فيكَ القدس، وتجعلك فرد تشير بنفس سبّابة الشهادتين إلى أولى
القبلتين، وبنفس السبّابة كذلك تتهجّى آيات بنو إسرائيل على مرّ العصور لتلقّنها
ناشئتك. فإن لم تحمل تلك البوصلة، وتضخ ذلك المبدأ في عروق محيطك، فكيف سينبض في
الجيل القادم؟ والقدس منصورة لا محالة بأمر الله، بك أو بغيرك كفرد، لكنّك مطالب
بأن يكون لك يد في ذلك. ومفردة يد هنا هي إشارة معنى، فاليد قد تكون قول أو عمل أو
كلمة واحدة، المهم أن تنم عن ثبات مبدأ واحد، ووعي.. وعي..وعي. فالقدس حق من حقوقك
وليست حق أو مسؤوليّة الفلسطينيّين وحدهم والذين لم يزالوا وسيظلّون صامدين لأجلها
مصداقًا للحديث الشريف الصحيح:
"
لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحقِّ لعدوِّهم قاهرين لا يضرُّهم من خالفهم إلا
ما أصابهم من لأْواءَ فهُم كالإناءِ بين الأَكَلةِ حتى يأتيَهم أمرُ اللهِ وهم كذلك
قالوا يا رسولَ الله وأين هم قال ببيتِ المقدسِ وأكنافِ بيتِ المقدسِ "
مشهد الوطن بشيكل:
وبذكر
المرابطين في القدس، كنتُ أتابع إحدى صفحات المرابطات الفلسطينيّات التي نشرت
مقطعًا قصيرًا من فيلم يندد بمعنى بيع الوطن وتخاذل الاتحاد العربي، والذي قادني
لمشاهدة الفيلم كاملاً. وبعد مشاهدتي للفيلم أصرّيت أكثر على نشر المقطع نفسه
بالإضافة إلى مقاطع أخرى شدتني في الفيلم. هنا المقطع يليه حديثي عن الفيلم وفكرته..
النص
محبوك بعناية والمشهد كذلك، وربط السيناريو بالجرائد فكرة مذهلة، فالوطن العربي قد
يباع بثمن بخس للعدو في ظل غياب النهضة العربية وليس المعني بأنّه لا يوجد قلب
عربي لا يحمل هم تلك الوحدة وكل عربي لا قيمة له، لكن المشهد يعني غياب تلك النقلة
العربيّة التي من شأنها أن تقلب الموازين في العالم عامّة وفلسطين خاصّة. شدّني
المقطع ورسالته، وتكرار كلمة جرائد، فالحال منذ زمن طويل عبارة عن أخبار في أخبار
والوضع في انحدار.
الفيلم يُدعى "الزمن الباقي" وهو فيلم
درامي فلسطيني من كتابة وإخراج المخرج الفلسطيني إليا سليمان وإنتاج أجنبي،
وبالرغم من تحفّظي على بعض محتواه إلا أن مشاهده قامت بتجسيد معاني عميقة بأسلوب
ساخر وتجريدي. الأسلوب الإخراجي للفيلم يشبه فيلم " About
Endlessness " والذي اختصيته بتدوينة مستقلّة
(تجدونها هنا)، وذلك من ناحية اللمسة الفنّية والصمت المخيّم على المحتوى إلا من
نصوص قصيرة مفعمة بالعمق والرسائلية. كأحد المشاهد التي تصوّر اقتحام شرطة
الاحتلال لمنزل فلسطيني وعثورهم على "البرغل" وسرقته معهم، وبعد مدّة
يقدم شرطة الاحتلال ليزوروا المنزل ويقدموا طبق التبّولة لأحد المواطنين. وهذا
يختصر الكثير في كون الكيان الصهيوني المحتل يجودون على الغير بما سرقوه أصلًا بل
وينسبونه لهم! وفي مشهد آخر يعبر أحد المارّة أمام مجموعة من الرّجال فيقترب منهم
مادًّا كفه للسلام، وحين مدّ الرجال كفوفهم له، سحبها مباشرة، وهي رسالة واضحة للإيهام
بالسلام الذي يُطالب به اليوم ويدعون إليه! وغيرها من المشاهد التي أحيي المخرج
على بلاغتها.
وأخيرًا،
أحببت الإشادة بهذا المقطع من ذات الفيلم. هنا نرى الفلسطيني الذي لا يخشى العدو
الصهيوني ومدى عدم اعترافه بوجوده بتاتًا، بينما نرى العدو الصهيوني الذي يحسب
للفلسطيني ألف حساب..
إن
حمل البوصلة المقدسيّة هو ما يوجّه ردة فعلنا كأفراد أو كمناضلين أو أدباء أو
فنّانين، وبقدر ما كانت البوصلة سليمة الوجهة بفعل غياب المؤثرات الخارجية بقدر ما
ستكون مجهوداتنا لنشر الوعي والتاريخ الصحيح قويّة، ورسائلنا صادقة، عميقة
التأثير، وصانعة لجيل يعرف عدوّه، فكيف يطالب بحقه من العدو من لا يعرف العدو ولا
يعرف حقه!
تعليقات
إرسال تعليق