تأملات قمريّة

 














أحب القمر، أحب هذا المخلوق المنير المستدير، وأهوى دائمًا انتظاره وتوثيقه في الليلة الرابعة عشر من كل شهر. قبل سويعات كنت في مشوار ليلي، وكنت أسند رأسي باسترخاء على النافذة وبصري متجه نحو السماء، فأبصرت القمر، في هيئة البدر، ونوره يتفجّر بالبياض وسط حلكة السماء، تأمّلته بهدوء وأنا أعبر الشوارع وهو يعبرها معي، فأوحى إليّ بتأمّلات جميلة، أرغمتني على بعثرة حقيبتي وإخراج هاتفي وفتح صفحة الملاحظات وتقييدها كنقاط قصيرة للتدوين عنها فور العودة للمنزل، ففي الحقيقة افتقدت التدوين عن المواضيع التي تنشأ قيد اللحظة، دون تخطيط مسبق أو نيّة كتابيّة بنكهة ثقافية تتطلب التأجيل والإعداد. وها أنا أجلس الآن على مكتبي بجانب إنارتي الصفراء لأكتب تأملاتي القمريّة بعد منتصف الليل..


فلسفة الكمال:

أول ما خطر ببالي وأنا أتأمل القمر هو اكتماله وتوقيت ذلك الاكتمال، فالقمر يكتمل في يوم واحد بل في ليلة واحدة فقط من ذلك اليوم من كل أيام الشهر، تفكّرت في ذلك الوقت المحدود جدًّا الذي يتاح للقمر فيه أن يتجلّى في أبهى حلّة، وبأكمل وجه، يضيء فيه بكل قدرته الجماليّة، ومن جميع اتجاهاته الضوئية، ليلة واحدة يباح فيها الكمال، ليبدأ البدر بالتضاؤل بانتهاء تلك الليلة فورًا.

كم هي الأيام التي تبلغ فيها أقدارنا ومشاعرنا وحالة أجسادنا وراحتنا ومتطلباتنا في مستوى تام من الكمال، أعني بالكمال هنا هو الصفاء التام والخلو التام من أي منغصات، لعل تلك الأيام قليلة جدًا أو ربما تكون معدومة، أو حتى مستحيلة. فالكمال في الدنيا شيء لا يُدرك وإن أدركناه فسيكون في سويعات أو لحظات يسيرة مقارنة بباقي أيامنا التي يشوبها ما يشوبها من منغصات الحاضر أو الماضي والمستقبل. فإنه يندر جدًا أن تصفو لنا حياتنا بأكملها في فترة ما، ومع ذلك، فعدم اكتمالها لا يناقض ضياءها وإمكانية تلمّس الجمال فيها بشتى التفاصيل. كما القمر، فإنه يبدو جميًلا بكل حالاته طيلة الشهر، وعدم اكتماله لا ينافي جماله، فهو الهلال الباسم، والنصف الضاحك، والبدر السعيد، والمحاق النائم.

 

أنتَ تضيء في فلكك:

استوقفني تأمل آخر، جعلني أتأمل كيف يبدو القمر ليلًا وكيف يبدو نهارًا، فمن الطبيعي أن يبدو في النهار باهتًا خفيفًا وكأن هذه السماء لا تعنيه، وأنه لا يعترف بوجوده حتى تخيّم الحلكة على العالم، فيتوحّد بظهوره، ويتميّز بنوره، هذه هي هويّته، بل حتى أن ذلك التميّز يتضح في تسمية القمر بالنور والشمس بالضياء في الآية الخامسة من سورة يونس: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" وقد قيل في تفسير هذه المفارقة أقوال جميلة ذكرت في مقال تابع لموقع الدرر السنية (هنا)، و وجدت منشور في فيس بوك يختصر هذه الأقوال في تفسير مبسط ولطيف:

الضياء هو الضوء الصادر من مصدره مباشرة . فيكون الجسم مضيء بذاته، والنور هو الضوء المنعكس عن مصدر ، والمنير ليس بذاته بل بانعكاس الضوء عليه فيبدو منيراَ. قال أبو هلال العسكري: "وقد يفرق بينهما بأن الضوء: ما كان من ذات الشيء المضيء. والنور: ما كان مستفادا من غيره. وقال ابن رجب :والضياء هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإحراق كضياء الشمس بخلاف القمر فإنه نور محض فيه إشراق بغير إحراق.


الجدير بالذكر، أن نور القمر يتميّز ببروزه في العتمة، هذا الكائن المنير والذي يغمرنا بالأمل والتأمل، يولد من رحم الظلمة والحلكة. فلكل منّا معاييره الخاصة لأن يكون هو، ولكي يضيء كما هو، في سمائه الخاصة وأوقاته الخاصة وظروفه الخاصة، لا مطابقة ولا مفارقة، هو تميّز في الهوية البشرية والشفرة الإنسانيّة، فإن كان التميز يقع حتى بين الشعاع (النور والضياء) فكيف لا نتميّز نحن. أتذكر أنني غردت ذات مرة بتغريدة عفوية لكنني أحببتها جدًا ورسخت في ذهني: "على كلٍّ منا أن يسبح في فلكه، حتى يحتك بكواكبه، ويستدل بها إلى نجومه، فيضيء، ويدرك مصدر نوره وسروره". أجل، على كل منّا أن يدرك أين يبدو منيرًا، أو مستنيرًا، أو ضالّاً مستديرًا، يحجب عن نفسه رؤية هويّته من فرط التفاته على الآخرين ولحاقه بمن حوله، لمحاكاتهم والاحتكاك بأفلاكهم، وحين وصل إلى أفلاكهم جاهدًا، بدا خافتًا باهتًا، كما القمر البازغ وسط النهار، ولم يعرف بأنه كان بإمكانه أن يشع، بكامل هويّته وشخصيّته ومقوّماته، لكن في فلك آخر، ومسار آخر.


ذكريات الليالي القمراء:

كما قلت في بداية حديثي، أهوى توثيق القمر، وخاصة البدر في منتصف الشهر، كما تنتابني رغبة أحيانًا في الكتابة الأدبية لوصفه وللتعبير عن زياراته النيّرة، أختار دائمة سطح المنزل أو الحديقة مكانًا لمصافحته. هنا شيء من الذاكرة الصوريّة والأدبيّة التي وثقتها في ليالي قمراء ماضية.(اضغط على الصورة لرؤيتها بحجمها الطبيعي).


 

 

 

 



أي قمر | كتبتها في مارس 2020

أي قمر..

كيف حالك يا قمر؟

كيف أنتَ؟

بلا شجون، أو ظنون، أو ضجر؟

كيف السماء؟ كيف الهواء..بلا مطر؟

فأنا بخير، ما دمتُ ألقاك هنا،

وسط الظلام إذا انتشر،

ما دمتَ تُخلص للوعود،

وتجيءُ.. أخلص مَن حضَر،

تحيي بأنفسنا الوفاء،

إن غرّنا كِبر الجفاء،

لتكونَ أوفى من بَشر. 



تعليقات

  1. تأملاتك بديعة
    تذكرني بمقولة لأوشو يقول "اجعل ليلة اكتمال البدر.. ليلتك"!
    أحمد الحمدي
    www.alhamdi.blog

    ردحذف
    الردود
    1. شكرًا لقرائتك أحمد والمقولة أعجبتني جدًا !!

      حذف
  2. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

ثمن التجربة