أحلام كبيرة والدراما الخالدة

 


أحلام كبيرة، العمل المؤنس لي في كثير من الأوقات والذي أعدت مشاهدته مرّات كثيرة، وفي كل مرة يكون وقع الحوار بنفس العمق وكأنني أتلقاه لأول مرة، وتأثير المعنى الحزين أو السعيد حاضرًا كأول مرة، والتأمل في وجوه الشخصيّات دقيقًا كأول مرة. هذا المسلسل الجميل من تأليف الكاتبة أمل حنا وإخراج القدير حاتم علي (رحمه الله) الذي توفي قبل فترة وجيزة مما أصابني بالحزن الممزوج بالصدمة. هذا الاسم الكبير أظنه لن يتكرر من حيث تجسيد الإنسانية والواقع ووضعهما في قالب مقنن وعفوي في ذات الوقت، فالمخرج الإنساني علي رحمه الله مرتبط لديّ بأعمال جميلة وجليلة رافقتني في فترات مختلفة من عمري وطفولتي كمسلسل الفصول الأربعة والزير سالم وربيع قرطبة، وأخيرًا أحلام كبيرة الذي أعتبره الأقرب لقلبي. تلخّص قناة شام دراما فكرة هذا المسلسل بنبذة شاملة ووصف مختصر:


يروي المسلسل قصة عائلة الحلبي المكونة من أبو عمر (بسام كوسا) وأم عمر (سمر سامي) وأولادهم : عمر (باسل خياط) ، حسن (رامي حنا) ، سامي (قصي الخولي) ، رشيد (مكسيم خليل) ، يعمل الأب في التجارة مع أخيه أبو شريف (حسن عويتي) والذي كتب والده كل الأملاك باسمه مما يؤدي لحدوث مشاكل بين الأخوين تنتهي بإصابة سالم (أبو عمر) بجلطة دماغية تقعده عن العمل مما يدفع عمر الابن الأكبر المتفوق دراسياً للتخلي عن طموحه بالسفر إلى الولايات المتحدة - لدراسة الفيزياء الحديثة - ليدرس الحقوق ،ويعمل بالتجارة مع أبو وفيق (صبحي الرفاعي) صديق أبو عمر ليعيل عائلته ثم يفتح مكتباً للمحاماة ويتعرف على الصحفية وفاء (نورمان أسعد) التي يقع في حبها و يتزوجها رغم أنها مصابة بقصور في القلب مما يمنعها من الإنجاب، أما حسن الابن الثاني فهو شاب ثري جمع ثروته بطرق غير مشروعة يملك شركة سياحية ،يوقعه طموحه في عدة مشاكل مع أصحاب الشركات السياحية. سامي الابن الثالث ممثل ومثقف يتزوج سلمى (نادين تحسين بك) التي عادت من الولايات المتحدة خصيصاً لكي تتزوج سامي الذي وعدها بالزواج - عندما بقيت عندهم حين مات والديها وهي صغيرة لعدة أشهر حتى أخذها عمها إلى أمريكا - ولكن شك سامي وغيرة زميلته أدى إلى حدوث مشاكل عديدة بينهما تنتهي بالطلاق ،رشيد الابن الأصغر يدرس في الجامعة و يعمل في شركة حسن السياحية ويحب زميلته هيفاء (نسرين طافش).


حقق المسلسل نجاح واسع وتربّع في ساحة الدراما الخالدة في نفوسنا رغم مرور الزمن إثر إيقاعه الإنساني العميق ومحاكاته للواقع لدرجة نسيانك لوجود الكاميرات وإعداد النص بشكل مسبق والتلبّس بالشخصية والشعور، فكل شيء يبدو طبيعيًا وصادقًا، الدهشة والحب، الرهبة والحزن و انفراط الضحكة أو الدمعة والبكاء، البراءة وأحلام الطفولة، تدفق المشاعر بانسيابية والحوارات بانسيابيّة أكبر، تفاصيل الأماكن والبساطة. أحب جدًا ذلك الصدق والتجلّي الحقيقي وأصوات الشوارع والانتقال بين المشاهد بلحظات خاطفة تعكس مظاهر من مدينة حلب وتفاصيل شوارعها وأسواقها وأناسها البسطاء، أحب اهتزاز الكاميرا الطفيف الذي يحتضنك لتكون جزءًا من الحجرة الدافئة أو ساحات المنزل الشاميّ الحميم أو الشوارع المزدحمة والدكاكين المشرّعة، أحب هذا العمل جدّا، وقد أضطر لمشاهدته فقط لغرض الابتعاد عن الصخب والركون للاسترخاء في هذا العالم السينمائي الجميل الهادئ الذي يعيد لي بسمتي وهدوئي. لذا، اخترت أن أنتقي أكثر ما أثر بي في أحلام كبيرة فضلًا عن تأثري بكامل تفاصيل العمل قلبًا وقالب.


الشارة والوتر الحسّي:

إخراج المسلسل وحواراته لا تقل تميّزًا عن شارته ونغمات مشاهده التي أبدعها الفنّان طاهر مامللي ونورا رحال، فلها وتر حسّي كبير تم انتقاؤه بدقة. فليست المشاهد بتلك الصاخبة التي تتمدد فيها الموسيقى طيلة الوقت، بل المشهد حيّ وواقعي لدرجة سماعك لرنين السيّارات من الشقّة أو ضجيج الجيران من زقاق منزل أبو عمر، فالنغمات مختارة في الدقائق المثيرة فقط ومع الحوارات المثيرة.

معزوفات المسلسل تنطلق من شارة بدايته، فالشارة تم تنفيذها بأوتار متنوّعة بين الشجن والحنين والنشوة بالأحلام البعيدة والتي توزّعت بين مشاهد المسلسل كلّن بحسب معناه وشعوره. لا أعلم لماذا لاح لي طيف المخرج الراحل حاتم علي وأنا أستمع لكلماتها الآن، وكأنه يودّعنا من خلالها خاصة بعد جملة: نامي إذًا يا روحُ.. للاستماع للشارة (هنــــا).

 

كل شيء ضاق .. ضاق حتى ضاع

كل شيء ضاق .. ضاق حتى ضاع

لم يبقَ للعشاق .. غير اليأس ِ

واليأسُ بعض .. فضائلِ العشاق

نفذت أمانينا .. نفذت مرامينا

أحلامنا نفذت .. عصارة روحنا نفذت

وما نفذ الكلام..

***************

نامي إذًا يا روحُ .. نامي الآن

هي آخر الأحلامِ .. نطلقها على عجل ٍ ونمضي

هي آخر الأيام .. نطويها على عجلً ونرحل بسلام


تخلل العمل أبيات عظيمة ملقاة بوتيرة رائعة تحرّك القلب نحو شعور عميق، هذه الأبيات تحكي عن وداع حبيبة عمر (الابن الأكبر) والتي سافرت دون إخباره لظروفها القاهرة، كما تحكي عن وداع زوجته فيما بعد، التي رحلت بوفاة مفاجئة، فكلا الرحيلين كان إجباريًّا.. دون وداع. كلما سمعتها أسبح معها للبعيد لأتفكر في الوداع، ذلك الوداع الذي نُجبَر عليه كبشر، فقد لا نقول وداعًا، لكننا نرحل بنيّة ذلك الوداع، ونلقي تحيّة اللقاء بكل برود، ونحن نعلم في حدسنا بأنه اللقاء الأخير..

اخترت هذا المقطع للاستماع للأبيات مع صور منتقاة أظنها من الشام الحبيبة. الكلمات هنا توازي اللحن في الانكسار ومقاومة الإجبار، والابتسام رغم الحزن، ولعل النغمة بعد الدقيقة 01:22  تختصر الكثير..



معاذ الله..

أنا لا أريد أن أقول لك وداعًا..

معاذ الله..

لأن ذلك يعني أن كل شيء قد بات منتهيًا..

العصافير والموسيقى..

المطر والأعشاب والكتب..

وكل الأشياء.. كل الأشياء.. معاذ الله

معاذ الله.. أنا لا أريد أن أقول لك وداعًا..

معاذ الله..

فقط سأبتسم.. وأقول لك صباح الخير..


الحب وأحاديث الطفولة:

 

أحب الأعمال التي تبدأ بسرد الحكاية منذ الطفولة، فيشب أبطالها خلال المسلسل، ونعيش معهم أحلامهم الكبيرة فور تفتّقها وانولادها من رحم الأمل والتطلّعات. هنا مشهد لأبناء أبو عمر الحلبي، وهم يتقاسمون حجرة واحدة، لكن كل واحدٍ منهم يسبح في فكره الخاص وفلكه الشاسع، فأحدهم وجد طموحه الذي يحبّه، والآخر وجد حبّه الذي يطمح إليه. 



أحببت ملامح سامي الطفوليّة وهو يتدغدغ بفعل حماسه لأن يكون ممثلًا وحواره البريء مع أخوه عن ذلك. والأجمل، حوارهما عن الحب. هنا يظهر عمر وهو في تجربته الأولى مع الحب، بفتاة تكبره سنًّا وتختلف عنه في الديانة والثقافة.. ذلك الحب الذي نهاب البوح به، بقدر رغبتنا في الحديث عنه لننتشي، ولكي نربطه بالواقع. في هذا المشهد تساءلت حقًا، كيف يقع الحب، كيف يحدث في موقف عابر، وتصرّف تافه لا يُكترث له، ولعل أحد تلك التصرّفات مناداة أحد الغرباء لنا باسمنا بألفة دافئة مجهولة المصدر.. كما يصفها عمر: وقتها صار قلبي يدق.. يمكن لو ما نادت لي.. ما كان صار شي..!


تحدّيات النضج والاختيار:



بعد أن شبّ أبناء أبو عمر وانغمسوا في دنيا النضج، غدت الطموحات الكبيرة أصغر، وأضيق من التوقعات، خاصة لعمر، الذي صمد كثيرًا وعزف عن الكثير من اختياراته الشخصية ليخضعها للواقع المر، وما إن وجد طيفًا من أمل في قلب فتاة تدعى وفاء، أصر أن ينفجر ويبوح بضعفه .. ويرغم كل ظروفه القاسية على الخضوع لحبه الجديد.. في المقابل، تعاني وفاء من قصور في القلب يجعلها تهرب من فكرة الارتباط .. حتى وإن كان من شخص تبادله الحب..كي لا تعرّض أحد للتضحية. الإنسانيّة تتجلى هنا في أحقّية كل شخص باختياراته، وبكونه مستعد للتضحية من عدمها، وبإذنه التام لخوض تجربة قاسية بشعور جميل..



في هذا العمل رأيت بأن الحب قد يبأ بكلمة وينتهي بكلمة، وأن اليأس قد يولد من رحم الأمل، والعكس.. وبأننا امتداد لطفولتنا..شئنا أم أبينا.. شعرت بأن هذا العمل رسالة حقيقيّة وواقعيّة تجسّد المنعطفات الأسريّة والاجتماعيّة التي قد نجبر على سلوكها.. لكننا ننتهي بلافتات تعيدنا لطريق القلب وما نريده حقًا. وأدركت بأن الظروف أحيانًا تكون أقسى منا.. فتعلمنا القسوة.. بعد أن عجزنا عن تليينها.. وبأن من يحب أو يكره.. قد لا يعترف بذلك.. إلا في وقت متأخر، بعد أن يرحل الجميع.. ويظل الشعور وحده معترفًا بذاته لصاحبه. وفي خضم كل تلك التجارب، لا نعي بأن الأيام جدّ قصيرة.. والأحلام كبيرة..


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

ثمن التجربة