كبوات القوة والضعف

 


أستطيع الاعتراف بعد ما مررت به في شهر ديسمبر من ظروف صعبة أنني سريعة التعرّض للضعف، بالقدر الذي أكون فيه سريعة التدارك والمحافظة على رباطة جأشي والسيطرة على مخاوفي ومقاومة الهروب من مواجهة ابتلاء ما. هذا الاعتراف جاء بعد أن شعرت بالإجهاد الجسدي والنفسي وهو يبسط نفوذه عليّ بكل سطوة التحكّم. دائمًا ما كنت أتحكّم بكل شيء يجري بي بعد مرحلة قويّة من النضج والوعي، لكن المرحلة الأخيرة أكدت لي بأننا لن نتمكّن في كل حين من القدرة على التحكّم والسيطرة سواء في فهم قوّتنا أو ضعفنا أو تسييرهما وفق تخطيطنا. أعني أنه لن يكون بوسعي في كل موقف أو تجربة أن أسمح بقوّتي أو ضعفي متى "شئت"، فقد يمتد الضعف ليسيطر عليك مرغمًا إيّاك أو منذرًا لك على الابتعاد عن المواطن التي تستنزفك، حتى وإن كنت تُستَنزَف برضاك ورغبتك، فلست أنت من يقرر ويسيطر ويتحكّم في كل مرّة وبنفس الدرجة. قلت لأحدهم قبل أيّام: عليّ أن أنتبه لضعفي، وكيف يوصلني لمرحلة شديدة من الإنهاك، فرد علي: بل عليك الانتباه لقوّتك. استوقفتني تلك الإجابة، المفارقة هنا دقيقة جدًّا، فتركيزي على قوّتي ومستوى تحمّلها هو ما سيقيني من الوصول لمرحلة الضعف والإنهاك من الأساس. والتركيز على قوّتي يتمثّل في إدراكي لما يمكنني فعله وما يمكنني طلب المساعدة بشأنه.

المساعدة وطلبها من الآخرين أخذت مني وقت طويل لإدراك أهميتها، فطلبنا المساعدة من الآخرين مساعدة لأنفسنا في الأصل. كم هي المرات التي كنت حاضرة لأجل مساعدة الآخرين ومساعدة نفسي، لكن مرات قليلة التي أطلب فيها "بكل ضعف وصدق وحاجة" مساعدة الآخرين "لي". حين تفكّرت في ذلك، وجدت أنني أسبح في بحر المثاليّة أو التمثيل، وإجبار نفسي لأن تكون في قالب "مقنن" للشعور بالضعف والاحتياج للآخرين، مع التشديد على عدم الانهيار والرمي بنفسي المنهكة والراغبة في البكاء والاحتواء في حضن أحدهم. لكن حين جاءت الفرصة للإذن بذلك، تفاجأت بكمية المشاعر الطفوليّة التي نبعت منّي، فكم نقسوا على الطفل الذي يسكننا بحجّة نضج الشخص الكبير الذي بلغناه. تلك القسوة أشعرتني بالشفقة تجاه كبوات القوّة والضعف، وكم علينا أن نتخذها بإنسانيّة قبل التعامل معها بالجدّيّة.

يمكنني القول بأن السماح بضعفي وعدم ممارسة السيطرة عليه و حتى عدم محاولة فهم جسدي ونفسي أثناءه أفضل سبيل للراحة، فالسماح بالضعف بكل قوّته هو ما يفسح للقوّة للتوالد مجدّدًا. أتذكر تشبيه جميل لأحد المحفّزين يصف به مراحل الضعف بأنها أشبه بماء يصارع الغليان، فهل سيتمكن الإنسان من رؤية نفسه أو الحقائق من حوله المنعكسة على هذا السطح الذي يغلي ويتأجج بالفقعات؟ أم أن الرؤية ستكون أفضل بعد أن تهدأ الأمور ويتحول الغليان إلى الماء الراكد والساكن؟ ومن هنا يتضح المعنى، ففي مرحلة الضعف والخوف والشتات لا يجدر بنا أن "نستهجنها"، أو نصدر الأحكام حيالها، أو أن نؤكّد خلالها بعض مفاهيم الوعي تجاه أنفسنا وما حولنا. فالرؤية غير حقيقيّة ولا تمثلنا، والمياه غير راكدة، ولنأذن لها بالغليان حتى تركد.

من الطبيعي أن لا نقدر على ممارسة قوّتنا في وقت ما، من الطبيعي أن نلتقي بالأحباب ونحن غير قادرين على إلقاء النكات والسواليف وإشعال الاجتماع بالبهجة، من الطبيعي أن يرى الآخرين من المقربين أو الغير مقرّبين ملامحنا الحزينة أو الهزيلة وأن نبادلهم الشكوى أو التحفظ عنها، من الطبيعي أن نطلب النوم بقرب شخص نحبه لمخاوف تافهة تعترينا، من الطبيعي أن نوقف جدولنا اليومي ونعتذر عن إنجازاتنا لأننا لسنا بخير، من الطبيعي أن نكون بخير ونحن نشعر بأننا لسنا بخير، من الطبيعي أن لا نتمكن من فهم قوّتنا حين نفقدها فجأة، فهي سلسلة من تراكمات المقاومة والجينات الجسديّة والنفسيّة التي قد نكتشفها في المرحلة الراهنة لأول مرة، من الطبيعي جدًّا كل ذلك، فنحن لا نملك دليل إرشادي مُسبَق لكل مرحلة نمر بها لنلوم أنفسنا أو ضعفنا أو حتى قوّتنا لأنها لم تكن بالمستوى المطلوب وبالقدر المطلوب، ولماذا نضع ذلك المطلوب نصبنا من الأساس، وبأي حق نطلب من ضعفنا أن يكون في مستوى مطلوب، ونحن نشعر بأكثر من ذلك المطلوب!


تعليقات

  1. رائعة جدًا بشرى، شكرًا كثيييرًا على هذه التدوينة💛
    سأقرأها باستمرار :)

    ردحذف
  2. شكرًا لك نوّار تعليقك بلسم وسعدت به =)

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

ثمن التجربة