أسبوع تأمّل برفقة بشرى الصغيرة
مع
بداية السنة الهجرية الجديدة كنت في وسط زوبعة ما بين الالتزامات والمهام وما بين
المشاريع المعلّقة وما بين الأفكار المبعثرة التي تنتظر النظر فيها. فكنت في حاجة
لترتيب أولويّاتي، وجعل تلك الخطوة تتزامن بع بداية السنة بغية تحقيق الانتظام في الأشهر
القادمة. لكن تلك الزوبعة لم تمنحني الفرصة للجلوس بهدوء والبدء بهذه الخطوة، خاصة
مع وجود الالتزامات مع أفراد أو مؤسسات لا تحترم المواعيد ولا تولي اهتمام باحترام
الجدول الزمني للآخرين فيتركونك في استجداء الرد أو الانتظار للأقدار المجهولة
ريثما يرغبون بالرد أو تفضيل الصمت والتخلّف عن العمل. وهنا لحظت استنزاف أو تضييع
جزء من طاقتي وجهدي. أعتقد بأننا بحاجة لتعزيز ثقافة احترام الآخرين والتزاماتنا
معهم، فنحن لا نملك التحكم بهم وفق ما نشاء. أدركت بأن أسوأ ما قد يواجهني في
الأعمال مع الآخرين هو التأجيل من قِبَلِهم أو التجاهل دون مبرر أو دون مصارحة
ووضوح في الجدول الزمني أو التصريح بالاعتذار أو الجدّية في الاستمرار.
وبالعودة
إلى رغبة ترتيب الأوليّات، فضلت حسم مسألة تلك الزوبعة وإلغاء المشتتات والأعمال
والاتفاقيات المعلّقة و الأمور الغير واضحة، واختيار التوقّف والهدوء والوضوح مع
نفسي. فقد أدركت أنه حينما لا يكون الآخرين واضحين معي في إنجازاتي، لابد أن أكون
أنا واضحة مع نفسي، لأضع تلك الإنجازات والمساعي في موضعها الصحيح. بدأت فكرة
الوضوح مع النفس تتردد كما الصدى بداخلي: (هل أنا واضحة مع نفسي؟) أو إن صح
التعبير هل نفسي واضحة لي؟ ماذا يجري في دواخل نفسي، هل خطواتي تسير باتجاه صحيح؟
هل شغفي وإنجازاتي في موضعها الصحيح؟ هل هناك شيء من التخبّط؟ ماذا أحب أكثر،
وماذا أكره أكثر؟ وهل أنا أسعى لطرق مسدودة؟ أم أن طريقي سليم لكنه يحتاج قرع أكثر
من باب حتى تحين الفتوحات، وريثما تحين، هل يمكنني استغلال النوافذ؟
وبعد
هذه التساؤلات تحوّلت رغبتي في ترتيب أولويّاتي إلى رغبة ملحّة لفهم أكبر لذاتي،
لأن تلك الأوليّات ما هي إلا انعكاسات لدواخل المرء ورغباته وطموحاته. قررت حينها
التوقّف عن الركض والإنجازات، والبدء بأسبوع أتعرّف فيه على شخصيتي الحقيقيّة دون مؤثرات
خارجيّة تملي علي ما يجب علي فعله، مثل: متطلبات السوق وصناعة المحتوى وخطط تطوير
الدخل إلخ. واهتديت في نهاية المطاف إلى التوقّف وإعطاء فرصة للتأمّل. وملت كثيرًا
لهذه الفكرة، فالتوقّف أمر محمود إن كان الخيار الآخر هو الهروب أو السير وفق رغبات
متذبذبة ومؤقتة الإشباع. بينما التأمّل سوف يدعم الوصول لأوليّات ذات استدامة أكبر
على الصعيد الشخصي والمجتمعي. وبكل صراحة أحسست بشيء من الدغدغة الحماسيّة كون
رحلة التأمّل هذه ستكون مثرية لأنها ستكون عبر داخلي وبتركيز أعلى هذه المرة. وذلك
بغية اكتشاف نفسي بشكل أعمق، فقد أعرف عنها أشياء لم أكن أعرفها، أو لم أكن أنتبه
لها، أو لم أكن أضعها في موضعها الصحيح، وقد أتفاجأ من بعض التفاصيل عنّي، والتي
ستقودني لتقييم مساراتي في السابق، وترتيب مساراتي في المستقبل. ليس على المستوى
المهني أو الاجتماعي فحسب، بل حتى على المستوى الشخصي والعادات والممارسات
الحياتيّة.
سبق وأجريت
اختبار نمط الشخصية على إحدى المواقع، ثم قمت بحفظ صفحة نمط شخصيتي في المفضلة. والآن،
وجدت بأن الوقت مناسب جدّا في مرحلة التأمل هذه للعودة لتلك الصفحة وقراءة تحليل نمط
شخصيّتي بتمعّن شديد وتفكّر في النفس. الجميل في الموقع أنه بعد إجراء الاختبار
وعرض نمط شخصيتك، يوفر لك معلومات شاملة عن شخصيتك. وأعني بكلمة شاملة أن تلك
المعلومات تزودك بوعي كبير حول شخصيتك من ناحية نمط التفكير والسلوكيّات الشائعة
والأجمل هو استعراض نقاط ضعفك ونقاط قوتك. فنقاط الضعف هي الأمور التي تسبب لك
الوقوع في مشاكل معيّنة بشكل متكرر والمتمثلة في متاهات وعرقلات اجتماعيّة أو
عاطفيّة أو مهنيّة. ونقاط القوة هي الأمور التي تملكها وتتفرّد بها وهي فرصتك
الحقيقيّة لاستثمارها.
حين
قرأت نقاط ضعفي بهدف ربطها بتجاربي السابقة ضحكت بشكل هزلي، فكم كانت غائبة عني
مهما ادعيت بأنني أفهم نفسي. وقد نصاب بشيء من الإحباط بفعل ذلك الربط بين
شخصياتنا وتحدياتنا في الماضي ونقول (لو أننا تجنبنا ذلك وذاك لما وقعنا في بعض
الإخفاقات). ولكن سرعان ما يتبدد ذلك الإحباط فور قراءة الحلول المقترحة لمواجهة
نقاط الضعف بالإضافة إلى تعزيز التركيز على نقاط القوة. شعرت بسعادة كبيرة لقراءة
كل تلك التفاصيل عني، والتي كانت أشبه بالجلوس مع مرشد نفسي، يكشف الحجب عما أتجنب
مواجهته في نفسي، ويصارحني بأنني أصاب بالضعف أمام كذا وكذا، وأنهار أمام كذا، وأنني
في المقابل أملك المقاومة والقوة في كذا وكذا. كان الإدراك والوعي حاضرًا حين قبلت
أن أتقبّل نفسي. قبلتُ أن أقرأ بخجل ما اقترفت تلك النفس من تصادمات وإخفاقات،
لأنني كنت أجهل مجاهدتها الكامنة في مراعاة نقاط ضعفها، والأخذ بيدها نحو ما تقوى
عليه وما يجعلها أفضل، بدل لومها على ما أخفقت أو ما تخفق فيه. أحسست بقوة عجيبة
حين شعرت بأن نفسي صديقتي، وكيف اتضح لي استعدادها لدعمي في مسيراتي القادمة إن
بدأت بدعمها. ودعم النفس يكمن في فهمها وتطويعها بشكل سلس، ذلك الفهم سيختصر
الكثير من الوقت الذي يهدر في التجارب الأشبه بالمتاهات، فالتجارب ليست متاهات، بل
أنفسنا هي المتاهة، وبقدر فهمنا لها، سوف نملك نقطة الوصول بأقصر طريق!
وفي
هذه النقطة بالتحديد فهمت جواب غازي القصيبي رحمه الله حين كنت أتساءل كما يتساءل
الجميع في السر وراء إنجازاته وتركيزه على أكثر من مجال، وعدم الركون لليأس بعد
المراحل القاسية، فإجابته كانت باختصار وبلاغة شديدة هي: “سر نجاحي هو أنني كنت دوماً أعرف مواطن ضعفي بقدر
ما أعرف مواطن قوتي..”. أجل، إنها معرفة النفس، ونمط الشخصية يعتبر إحدى الوسائل لتحقيق
تلك المعرفة. بالمناسبة، الموقع الذي اعتمدت عليه في اختبار نمط الشخصية منذ سنوات
ولم أزل هو مدونة جاسم الهارون القيّمة، سأضع الرابط في آخر التدوينة. وإن ظلت
اختبارات أنماط الشخصية مجرد اجتهادات قد لا تلم بكل جوانبنا الداخلية، لكنها كما
ذكرت تزودنا بمعرفة ووعي كبير عنّا، وعن رؤيتنا للحياة والأهداف والعلاقات.
بعد خطوة
نمط الشخصية، لا أعرف كيف قادتني رغبتي للتعرف على نشأتي ونبش ملفاتي القديمة. وهي
ملفّاتي الخاصة بمرحلة الروضة، فقد قضيت في رياض الأطفال ثلاث سنوات من طفولتي،
ابتدأت بالسنة الرابعة من عمري وحتى السادسة. شدتني فكرة التعرّف على نسخة الطفلة
منّي، خاصة أن الملفّات بجل تفاصيلها محفوظة عندي منذ وقت، لكنني لم أطلع عليها من
قبل بهدف التعرّف على ذاتي. الملفّات اشتملت على أعمالي الفنّية التي كنت أمارسها
طيلة تلك الفترة، والتقارير الفصلية بخط معلماتي اللواتي كتبن فيها كل تطوّرات
نموّي في ذلك الوقت، كما اشتملت على ملف تعريفي خاص بالروضة التي درست فيها. سعيدة
جدًا لأن والداي احتفظا بتلك الملفات، ولم يتخلصا منها، وكأنها كانت بانتظاري كل
تلك السنوات لأطل على بشرى الصغيرة اليوم من خلالها.
وضعت الملفات أمامي، وشعرت بشيء من الارتباك كوني سأقرأ ما كُتب عنّي في طفولتي، لأكتشف هل ما زلت أشبهني.. أم أنني أرغمت نفسي على التبدّل بفعل تحدّيات الحياة. بدأت بتصفح الملف التعريفي واسترجعت الذكريات مع الصور الملحقة للأركان والألعاب و تصميم الفصل ولون السجاد ولباس الروضة. ثم شرعت بفتح ملفات التقارير وقراءة ما كُتب فيها، كان الضحك كثيرًا، والعجب أكثر. فكل شيء اكتشفته عنّي ببطء خلال سنوات عمري الماضية كان واضحًا وجليًّا في أيام طفولتي. فتقاريري مليئة بوصف ذو سرد طويل من قبل معلماتي، يصف سلوكي وميولي ورغباتي، وبالرغم من ممارساتي البسيطة والطفولية آنذاك، إلا أنها كلها تطابق ما أنا عليه اليوم من ممارسات ذات توجهات أكبر وأكثر تعقيد. فالوصف يقول بأن ركني المفضّل من بين الأركان في الروضة هو ركن المكتبة، وكنت أمتهن تصفح القصص وسردها على الآخرين وتمثيل الشخصيات وزيادة البهارات على الأحداث من المخيّلة. وغيرها من المعلومات التي أحتفظ بها لنفسي.
أما رسوماتي فزادت من فضولي، فبعض الرسومات لم تكن ضمن واجبات الروضة، بل رسومات حُرّة وخربشات مبعثرة مما ألهمني لتصويرها والتواصل مع أخصّائيّة تحليل رسوم وسلوك الأطفال. والتي توقّعت أن الرسوم تعود لأطفالي لكنني فاجأتها بأنني لا أملك أطفال بعد وأنني أنا الطفلة المعنيّة لكنها تبلغ التاسعة والعشرين اليوم^^ وبدأت بتحليلها المذهل. في الحقيقة تعجبت كيف للرسومات أن تكشف عن معلومات دقيقة في شخصية الطفل، والتي تكشف عن مستوى الانطوائية أو الاجتماعيّة لدى الطفل، تقبّله للعلاقات ومساعدة الآخرين، سرعة استجابته للتعلّم، هواياته المفضلة وطريقته في التفاعل، و ما الأشياء التي تجذبه من حوله ويتفاعل معها أكثر. ومخاوفه ومستوى اعتماده على الآخرين! لقد نبهني التحليل لأمور أثرت بي في الطفولة وربما لم تزل تؤثر لكن بطرق أخرى في الإحساس والتعبير. سأترك لكم حساب الأخصّائية الكريمة عائشة من الكويت أسفل التدوينة.
الخلاصة أن ما عرفته عنّي من تقارير وما تأمّلته من أعمال الروضة كالأعمال الرملية وأعمال الصلصال وخطّي البدائي وخربشاتي أصابني بمشاعر مختلطة. لكن الشعور الطاغي هو أنني أحسست بأنني أشبهني كثيرًا، وهذا ليس بالغريب. فنحن نتشكّل وفق صفات نولد بها، ووفق ما نتلقاه في سنواتنا الأولى. وبالمصادفة، خلال نفس أسبوع التأمّل هذا وجدت حلقة بودكاست من قناة وجدان تتحدث عن أهمية أول خمس سنوات في حياة الإنسان. وحين استمتعت لها بدا لي الأمر عظيم جدًا، ولا أبالغ. فتشكيلنا بنسختنا اليوم معجون بما في تلك السنوات الخمس الأولى، بل بما قبلها، أي ونحن في بطون أمهاتنا. الحلقة رهيبة بمعنى الكلمة، وقد أوضح فيها الأخصائي معلومات غزيرة تنبهنا لفهم ذواتنا، وعقد الطفولة أو مفازاتها، ونظريّة تعلقنا بالأشياء والأشخاص. كما تدعونا لإدراك مسؤوليّة إنجاب الأطفال وتربيتهم وتنشئتهم. سأترك رابط الحلقة في أسفل التدوينة للاستماع.
ما
بعد التأمّل:
بعد
انتهاء هذا الأسبوع من التفحص والتنبيش والتفتيش كانت الرؤية أوضح بالنسبة لي. فقد
قمت بكتابة أهم المخرجات التي سأركز عليها في نفسي للرجوع إليها ومراجعة خطواتي
وعزمي اعتمادًا عليها.
إن معرفة
النفس لا يعتبر شيء صارم ومقيّد، وكأنه يجبرك على رسم حياتك بالمسطرة والقلم. بل
هو عبارة عن خلق علاقة وطيدة بينك وبين نفسك، كي لا تتعجّب منها في حال الضعف أو
الندم أو الخوف، وأن تعرف كوامن شفائها وسعادتها وما يحرك مياهها الراكدة. وكيف
تطوّعها في سبيل تحسين ذاتك وعلاقاتك وحياتك بأكملها.
فكيف تكون صديقًا لنفسك دون أن تفهمها، وتكلمها،
وتكتب لها. فهي التي عاشت معك منذ البداية، وسترافقك حتى النهاية. ومن يفقدون
أنفسهم خلال هاتين النقطتين، ويفقدون طريقة التواصل معها وفهمها، قد يلقون اللوم
على الحياة والعالم الذي لا يفهمهم، بينما كان من الأجدر عليهم أولًا أن يفهمون
أنفسهم، لتحقيق تواصل أفضل مع المحيط الخارجي بمعضلاته ومسرّاته.
اختبارتحليل الشخصية. مدوّنة جاسم الهارون.
حلقةبودكاست وجدان: ما مدى أهمية أول خمس سنوات من حياة الإنسان؟
الأخصائيةعائشة لتحليل رسوم الأطفال.
تعليقات
إرسال تعليق