الهويات القاتلة ونظرتي للهوية



قبل أيام أتممت قراءة كتاب الهويات القاتلة للروائي أمين معلوف، في الحقيقة هي المرّة الأولى التي أقرأ لأمين معلوف نمطًا كنمط هذا الكتاب، فقد اعتدت أن أقرأ رواياته التي أصنّفها إلى الآن من أقرب الروايات إلى ذائقتي من حيث السرد التاريخي والترجمة الأدبية الرفيعة واللمسة التشويقية أو الإنسانيّة (والتي لطالما عزمت على تخصيص تدوينة مستقلة عنها وعن أسلوب معلوف الإبداعي في السرد الروائي لولا إمهالي لنفسي كي أقرأ روايات أكثر له). بينما كتابه هذا الذي شدّني عنوانه لم يكن مؤلّفًا روائيًّا، بل عبارة عن طرح فكري شخصي يتناول فيه أمين معلوف موضوع الهويّة من منظوره بعد أن تعرّض للكثير من الأسئلة التي تنبش وراء ماهيّة هويّته المشتتة بين العربية اللبنانية والفرنسيّة وأطروحاته الشرقيّة والغربيّة. فاختار أن يجيب من خلال هذا الكتاب على تلك الأسئلة مدعمًا محتواه بتعريف الهويّة والحداثة وسبل تمكين العالم من العيش بتمازج بينهما في عصر العولمة من منظوره الشخصي.

لقد كشف لي الكتاب عن عقليّة أمين معلوف الشخصيّة بعيدًا عن طرحه الروائي الذي كان يختبئ خلفه كفرد بعيدًا عن انتماءاته وآرائه الفردية ونظرته عن جدوى هذه الآراء. لكنه وفي هذا الكتاب القصير نسبيًّا أفصح عنها في أربعة فصول بإيجاز شديد لكنّه كان محشوًّا بآراء قويّة بإمكان كل رأي منها أن يتم الإسهاب فيه في مؤلَّف مستقل. فالطرح في الكتاب كان عميقًا بقدر ما كان متفاوتًا بالنسبة لي، وكقارئة لهذا الطرح، وجدت في نفسي تجاه تلك الآراء شيئًا من الإعجاب والموافقة والأمل نحو تحقيق عالم متصالح ومتجانس في الممارسات الثقافية والفنون واللغات بالرغم من اختلافه، كما وجدت بالمقابل شيئًا من الاستغراب فيما يتعلّق ببعض التفسيرات لتحديث الهويّة تجاه العصرنة والعولمة.



هذه التدوينة المتواضعة (متأكدة إنها متواضعة يا بشرى؟ ^^) لن تكون تلخيص للكتاب بالتأكيد، فمن يريد قراءة الكتاب أو الاطلاع على أطروحته من خلال وسائل مقروءة أو مرئيّة فهي متوفّرة. لكنني أكتب من منطلق الفلترة الذاتيّة لما أقرأ، فبعض الآراء لا تمر علي مرور الكرام، وأجدها تخضع لمصفاة ذاتيّة أستخرج منها مسلّماتي أو وجهات نظري، والتي اخترت طرحها هنا في تصنيف قراءاتي (بين دفتين) والتي لا تعني بالضرورة ردًّا أو تعليقًا على محتوى الكتاب بل وقفات ألهمتني للاطلاع أكثر عليها والتحدث عنها، ألا وهي وقفتي مع معنى الهوية وصراعاتها من منظور المؤلف، ورأيي في معنى الهوية من منظور أهم عناصرها.

الهويّة وصراعاتها:

تُعرّف الهوية من منظور أمين معلوف باعتبارها عناصر مشتركة وليست عنصرًا منفردًا والتي تتكامل مع بعضها لتشكّل نسيج مترابط ومشدود يمثل الشخص كفرد بهويّة مميّزة. تلك العناصر تختلف من شخص إلى شخص، لكنها غالبًا ما تشتمل على العقيدة واللغة والعرق وغيرها والتي سمّاها المؤلف "انتماءات". والتي تتشكل وتتكامل خلال الرحلة الحياتيّة للفرد، ولا تقتصر على العناصر التي يولَد معها الشخص.

ما استوقفني في الطرح هو أن بعض تلك العناصر قد تواجه شيئًا من الصراع من خلال كيفية الانفتاح على الحداثة، كصراعات العناصر العقديّة واللغوية، ولن أضيف الأخلاقيّة لأنني أرى بأن العنصر العقدي منطقيًّا يجدر به أن يشمل بدوره الجانب السلوكي والأخلاقي للفرد. الجدير بالذكر أن أمين معلوف طرح نظرة عامّة لتلك الصراعات التي واجهت الهويّة من الجانب العقدي الإسلامي والجانب العقدي المسيحي، وأشاد بازدهار تاريخ الإسلام في الانفتاح على الآخر والتسامح مع العقائد الأخرى فيما مضى من عصور نهضة الإسلام وفتوحاته، وفي المقابل طرح تراجع المسيحية في سالف العصور وعدم نهضتها. ثم انتقل بعد ذلك إلى العصور المتأخرة كي نرى ما آل إليه كل من العرب من تراجع في الانفتاح وما وصلت إليه الحضارة الغربية من نهضة على معظم الأصعدة لتكون في مقدّمة سائر الحضارات. ثم نوّه أنه لم يكن الغرب ليحقق ذلك لولا تحديثه لعنصر العقيدة المسيحية في هويّة أفراده وتعديله المستمر على قوانين الكنائس ودستورها كي تحقق التجانس العالمي وتتماشى مع ما يعيشه البشر في العصر الراهن.
"أريد القول ببساطة إن المسيحية، إذا كانت قد صنعت أوروبا، فأوروبا بدورها قد صنعت المسيحية. والمسيحية اليوم هي من صنع المجتمعات الأوروبية. فقد تحولت هذه المجتمعات، مادية وفكرية، وقامت بتحويل المسيحية معها. وكم من مرة شعرت الكنيسة الكاثوليكية بتضييق الخناق والخيانة والإذلال! وكم من مرة انتفضت ساعية لتأخیر تغییرات بدت لها منافية للإيمان والفضيلة والإرادة الإلهية! وغالبا ما انهزمت، ومع ذلك، كانت تنتصر دون أن تعلم. لقد كانت الكنيسة تتشنج دائما قبل أن تقتنع وتتأقلم، إذ كانت مرغمة على مراجعة نفسها كل يوم، في مواجهة علم منتصر بدا وكأنه يتحدى الكتابات المقدسة، وفي مواجهة الأفكار الجمهورية والعلمانية، والديموقراطية.

فهل خانت الكنيسة نفسها؟ لقد ساد هذا الاعتقاد مرارًا، وسوف تأتي ظروف غدًا تجعل هذا الاعتقاد يسري. ومع أن المجتمع الغربي قد صنع على هذا النحو، بالآلاف ذلك، فالحقيقة هي من ضربات الإزميل الخفيفة، كنيسة وديانة قادرتين على خوض غمار المغامرة المذهلة جنبا إلى جنب مع البشر الذين يعيشونها اليوم. لقد اخترع المجتمع الغربي الكنيسة والدين اللذين كان بحاجة إليهما. وأستعمل كلمة "حاجة" بكل ما تحمله من معنى، أي بما تتضمنه بالطبع من حاجة إلى الروحانية . وقد شارك المجتمع برمته فيها، بمؤمنيه وملحديه، وكل الذين ساهموا في تطور الذهنیات ساهموا كذلك في تطور المسيحية، وسوف يساهمون بعد بما أن التاريخ مستمر."
كانت وجهة النظر السابقة شبه إيضاح لتساؤل قض مضجع المؤلف حين قال: 
"لماذا كان التطور إيجابيًا جدًا في الغرب ومخيبًا للآمال في العالم الإسلامي؟ أجل، وللمزيد من التوضيح والتأكيد، أقول متسائلًا: لماذا استطاع الغرب المسيحي الذي عرف تاريخًا طويلًا من التشدد وعجز دائما عن التعايش مع الآخر أن يولد مجتمعات تحترم حرية التعبير في حين أن العالم الإسلامي الذي طالما مارس التسامح، يبدو اليوم معقلا للتطرف الديني؟؟"
المقاطع السابقة هي أشد ما استوقفني في الكتاب، لأتساءل حقًا عن أبعاد الهوية، والنظرة العميقة لعنصرها العقدي، بعيدًا عن الحضارات المتصدّرة أو المتأخّرة. فهل أفراد المجتمع الغربي بما يحملونه من هويّاتهم يحترمون حرية التعبير حقًا مع كل الحضارات والديانات؟ أو أنهم يميلون إلى التحيّز لأحدها حسب ما تستدعيه معاييرهم للحداثة (التي تصنعها حضارتهم الغربية)؟ وهل العالم الإسلامي (بما يُلصق به من فئات متطرفة قد لا تمثله) غدا بيئة للتطرف الديني اليوم؟ وأضيف في الجانب المقابل: هل الغرب في طريقه إلى التطرف الأخلاقي؟ إن لم يكن قد وصل إليه فعلاً! وما أسباب ذلك؟ وأوجّه تساؤلي للكنائس وتشريعاتها المتقلّبة وإلى بروتوكولات المجتمع الغربي التي لم ولن تحكم أفرادها ما دامت تلهث وراء إشباع غاياتهم أو غاياتها إن صح التعبير.

بين الهويّة والهاوية:

يرجّح المؤلف أن الحل للتجانس والعالمية مع الآخر يكمن في تشكيل تصوّر جديد لهويّة الفرد، وهو أن يتم فصل عناصر من هويّته أو إضافة أخرى كي يتمكّن من تحطيم حواجز الخوف من التجانس والعالمية التي يعتبرها حق لكل الحضارات في العالم. ويرى بأن العنصر العقدي في الهويّة هو أحد العناصر التي يجدر فصلها عن الانتماء المجتمعي أو العالمي كي يتمكّن الفرد من تحقيق التجانس.

"لا أحلم بعالم لا مكان فيه للدين بل بعالم تنفصل فيه الحاجة إلى الروحانية عن الحاجة إلى الانتماء، عالم لن يشعر فيه الإنسان بالحاجة إلى الانخراط في جمهرة إخوانه في الدين مع تمسكه المحتمل بمعتقدات وعبادات وقيم أخلاقية مستوحاة من كتاب مقدس، عالم لا يكون فيه الدين لحمة للمجموعات الإتنية المتناحرة. ولا يكفي فصل الدين عن الدولة بل يجب كذلك فصل الديني عن الانتمائي. فإذا ما أردنا تحديدًا ألا يستمر هذا الخلط في تأجيج التطرف والإرهاب والحروب الإتنية، يجب العمل على إشباع الحاجة إلى تأكيد الهوية بصورة أخرى."
تساءلت بعد هذا النص كيف للفرد أن يحافظ على معتقداته كما ذُكر دون الحاجة إلى انتماء إلى جماعة؟ وكيف سيتم فصل المعتقد الذي يرسم للفرد أخلاقيّاته، مع أهمية ممارسة أخلاقيّات أخرى تحقق لنا التجانس، كيف لأخلاقيّات الفرد حينها أن تُحكَم، وكيف له هو أن يتحكّم؟

وبالرجوع لتعريف الهويّة الآنف ذكره (أن هوية الفرد عبارة عن عناصر متكاملة يعيش بها كلها، وليست منفصلة)، فكيف يصف المؤلف الهوية بنسيج مشدود (بالعناصر المشكّلة لهذا النسيج) مع مطالبته بفصل أحد عناصر هذا النسيج (ألا وهو العقيدة الدينية..هذا إن لم يكن أهم عنصر في النسيج لدى البعض)؟ سواء كان هذا الفصل على مستوى مجتمعي (الدولة) او على مستوى الفرد (فصل حاجته للروحانية عن حاجته للانتماء). كيف سيبدو نسيج الهويّة حينها؟ هل يبدو مشدودًا؟ أم مهترئًا؟ أم في طور انحلال خيوطه، خيطًا خيطًا..؟!

عن نفسي، لا أرى أن العقيدة الدينية هي وجهة لتحقيق الروحانيّة فحسب، أو تأدية بعض الشرائع والأخلاقيّات التعبّديّة، وإن اعتبرناها كذلك، وتم حصرها في تلك الحاجة وإقصاؤها عن باقي جوانب الحياة فسنطرح الكثير من التساؤلات: على أي منهج سوف يقوم الفرد والمجتمع بفلترة توجّهاته مقابل التوجّهات الأخرى وأحقياته وتطلعاته سواء الاقتصاديّة أو الإنسانيّة أو المجتمعية؟ إن كان ذلك التوجّه لن يُحكَم بمبدأ عقدي، سوف يُحكم بمبدأ آخر، (بمعنى آخر: إن كان لن يُحكم بمبدأ إلهي، سوف يُحكم بمبدأ بشري). حسنًا، هنا نقف لنتساءل مرة أخرى: كيف سيُحكَم العالم أجمع بمبدأ واحد عن الهوية مصدره مصدر بشري أو سياسي أو حداثي أو غربي. ومن سيصنع ذلك الحكم وبالاستناد إلى ماذا؟ مع العلم أن الجانب البشري جانب قابل لتقلّب الإدراك والوعي والرغبة؟ ألا نرى أنه من الضروري وجود مبدأ ثابت يحكم للبشريّة بشريّتها في زمن لا يأمن فيه الإنسان خيانته من قِبَل المنادين بحقوق الإنسان أنفسهم؟ من يحكم الإنسانيّة أساسًا؟

وإن قَبِل الفرد (كونه أحد أعضاء المجتمع الممثّل بالدولة) بذلك الفصل (فصل العنصر العقدي عن الانتماء للعالم)، لن يكون إلا فردًا مهيأ للقولبة (يتشكّل في قالب) حسبما تقتضيه معطيات العصر على مر التاريخ المقبل، وحسبما تمليه عليه الحضارة المتصدّرة في ذلك العصر في سبيل التماشي مع مصالحه المتماشية مع مصالحها، فلابد من أن ينزع ذلك التماشي شيء أو يمس شيء من أخلاقيّاته التي ستمس عنصره العقائدي! ويمكننا النظر من هنا إلى الهاوية المُنتظرة في حال تسيير مفهوم الهويّة الجديد على هذا المبدأ.

العنصر العقَدي في الهوية:

إن عنصر العقيدة ليس عنصر ديني فحسب، هو عنصر سلوكي فكري، يحكم للفرد فرديّته، وعدم أحقّيته في شرعنة الرغبات. فرغبات الفرد وتطلّعاته في هذا الكون لم تكن يومًا مصدر لاستمداد الوجهة، بل على العكس، هي في حاجة إلى وجهة. ويمكننا البحث عن تلك العقيدة الثابتة المكتملة (الغير مضطرّة للتحديث) التي فطرت شرائعها بفطرة الإنسان، والذي إن تبنّاها بنفس صافية لن يجد فيها تضاد وصراع إلا مع ما يجعله كائنًا مقولب في سبيل تحقيق رغبات طاغية. وأرى أن هذا الرأي رأي منطقي وبديهي، فكيف للدين أن يُختزل في الروحانيّة أو بعض الأخلاقيّات، ويفصل الفرد انتماءه الديني في سبيل تحقيق انتماءات عالمية دون التأثير على هويّته، أيًّا كان دينه. وأرى أن أغلب من ينادي بمبدأ فصل الدين لم يجد في عقيدته أكثر من محراب يبكي فيه، وما تبقى فهو لرغبات ومصالح أخرى، فضلًا عن اعتناقه لعقيدة أصلًا!

 وهنا تأكيد هام جدًّا، فبعيدًا عن صحّة فهمي لمغزى المؤلف، ما أود قوله فيما يلي هو نابع من كوني فرد يعتنق العقيدة الإسلاميّة، وباعتبارها أهم عناصر هويّتي، يمكن لتلك العقيدة فلترة ما أتلقى من وجهات نظر ثقافية أو أخلاقية أو دعوات حداثيّة بقوالب معيّنة أو نداءات من حضارة أخرى مفروضة على بعض المجتمعات المتعارضة معها، كما أرى أن عقيدتي قامت بتلخيص وجهات النظر السابقة ببلاغة أحببت الاستعانة بها في طرحي.

فقد لخّصت هذه الآية الكريمة الآراء السابقة باختصار شديد في {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ}. الأعراف 23، والتي تؤكد على أن الفرد قد يعتنق رغباته كعقيدة، في حين أنه يتصوّر بأنه فصل العقيدة عن رغباته. وبجانبها آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.المائدة 3. تؤكد للفرد حاجته لعقيدة ثابتة عبر كل عصر (لا عقيدة متشكّلة مع كل عصر) تكون مرجعًا للتغيّرات التي سوف يواجها معتنقها والتي قد لا تتفق مع فطرته، فيستحيل على الإنسان أن يحكم الإنسان، فكلاهما محكومان بفطرة تحتاج إلى من فطرها لتوجيهها نحو سلامتها. وفي جانب اشتمال العقيدة على السلوك، تأتي آيات سورة المؤمنون 1-4 {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ *} إلى آخر الصفات، لتؤكد على أن أصل الأخلاق سلامة المعتقد، والعكس صحيح كما في آيات سورة القلم 10 -12 {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ*هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيم* مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} فهي تؤكد مرجعية سوء الخلق لسوء المعتقد. بل وحتى مع سلامة المعتقد، ينتج سوء الخلق لنقص في الإيمان كما في معنى الحديث: "لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن". وغيرها من الآيات والأحاديث المماثلة مؤكدةً على أن العقيدة منهاج حياة وبالتالي هي تشتمل على الجانب السلوكي للفرد بل هي من تشكّله، وبقدر الإيمان يرتقي الإنسان.

ولم تكن الاعترافات من الغربيين والشرقيين على مر التاريخ بأهليّة مبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في تسيير الأمور في مسار صحيح يلائم الفرد والمجتمع في شتى القضايا، لولا أن خلقه نابع من تلك العقيدة التي لم يحتج إلى شيء آخر بعدها، فقد كان خُلقُه القرآن! (مع العلم بأنه ليس بحاجة لاعترافات البشر بهذا الاستحقاق). وهذا رد مختصر على كل من يسأل لماذا تأخر المسلمون اليوم، فيجيب نفسه بسؤال آخر بديهيًّا: هل نتعاطى مع العقيدة فكرًا وتطبيقًا كما حملها وتعاطى معها رسولنا الكريم ومن معه في تلك القضايا التي تتكرر في كل عصر؟ أم تمت قولبة تلك العقيدة مؤخرًا وقولبتنا؟ ولا أبرّئ نفسي، فأنا أجيب بأنني أوّل المقصّرين في حملها كما يجب.

نعم، العقيدة الإسلاميّة السليمة تكفل للفرد تشكيل هويّته السماويّة والسامية في آن، من حيث سلامة المعتقد والإيمان، والازدهار بأقوى اللغات وفصاحة اللسان، وتقويم السلوك والأخلاقيات بشكل متكامل ومتجانس لمن يعتنقها. فأهم عناصر الهويّة لدى الفرد هي اللغة التي ينطقها ويفكّر بها، والعقيدة التي يتفاعل بها مع خالقه ومع نفسه ومع العالم، وأخيرًا عنصر التاريخ الذي يكفل للفرد أخذ منارات التجارب والصراعات لكيلا يقع في جحر مرتين، ويختصر السبيل لوجهته.

ولو لم يكن العنصر العقدي الإسلامي جوهريًّا إلى هذه الدرجة، لم يكن ليدرّس منذ الطفولة في شتى البقاع، ولما سعى أعداء العقائد إلى السيطرة على فكر الأجيال العقدي لسهولة تشكيله وتغيير مسلّماته. ولذلك يقومون بالتقليل من شأن ذلك العنصر الهام لدى المسلمين كونهم يوقنون بأن العقيدة الإسلاميّة منهاج حياة وليست مجرّد روحانيّة مما سوف يتصادم مع معطياتهم لهذا العصر في نظرهم.

وأثناء اطلاعي وبحثي في مقاطع مختلفة حول الهويّة صادفت مقاطع لأطفال يردّدون أبيات عن العقيدة وهوية المسلم للصفوف الدراسيّة الأوليّة بكل لطف وبراءة، أشارككم أحد تلك المقاطع بالرغم من جهلي لمرجعية المنهج الدراسي في المقطع لكن تنويهي على سلامة المعتقد في الأبيات..


كم أثرت بي لهجة الأطفال البسيطة في ترديد مبادئ عظيمة، ولو علموا أن هذه الأبيات البسيطة هي ما يقتتل عليه اليوم المنادون بالتعايش لفهموا المغزى من حفظها مبكرًّا. فاندفاع الأجيال نحو غمار الحياة الحلوة وتحطيم كل ما يعارضهم في ذلك الاندفاع هو القوة الحماسية التي قد تكون معهم أو ضدهم، فقد لا يحوزون ما في طريقهم من رغبات، إلا بالتنازل عن بعض المسلّمات!

ما أجمل اعتناق مبادئ عقدية ثابتة تلائم فطرتك وتعطيك فسحة لا تؤدّي إلى التيه عن إنسانيّتك، وما أعظم العيش بهويّة باعتبارها تذكرة عبور سبيل نحو وجهة واضحة وسماويّة، وما أسوأ العيش بهويّة مشتتة لا يعرف حاملها أبعاده العقديّة والأخلاقية أو حتى قدوته، فضلاً عن محاولاته المستميته في استجابته لنداءات وجوب فهم وتقبل هويّات الآخرين، وما أخجل العيش بهويّة يخجل صاحبها من الاعتزاز بها.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المرأة من منظور "زمّليني"

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

مواليد التسعينات | بين القناعات والتحديات