التشافي من الخوف عند حافّة نياجرا



في مثل هذه الأيّام، قد نجد فرصة أكبر للتأمّل في مسارات حياتنا وتصحيح إدراكنا الذاتي بفعل تغير نمط الحياة والعبادة وتحقيق شيء من الهدوء الأعمق. لذا، وجدتها فرصة للثرثرة عن أمر يقطن في الذات ومن شأنه أن يجعلها جنة من السلام، ألا وهو تخطي المخاوف. أعلم أننا حين نقوم بالتركيز على مخاوفنا، قد ينتابنا الخوف منها، لكنني في الحقيقة ممتنة بعد الله لتلك المرحلة والتجربة التي تجلّت فيها مخاوفي لتعطيني درساً في تحقيق السلام الذاتي الذي قد يرعى النفس مدى العمر. بالنسبة لي، أرى أن المخاوف قد لا تُدرك أو يمكن تعريفها بسهولة، فإن توالد المخاوف عبارة مرحلة تدريجية، تبدأ بتساؤلات مبطنة في أذهاننا عن طبيعة الظرف الذي نعيش فيه، والذي قد نكون فيه في فترة ركود روحي أو عدم حماس والذي ينتج عن تجربة اجتماعية أو مرحلة انتقالية أو نهاية فترة دراسية أو مهنيّة أو غيرها من المراحل والمحطات الحياتيّة التي تثبت لنا حقيقة الحياة المتقلبة بين العلو والانخفاض لتحيل النفس من روح مشتعلة إلى روح منطفئة. فلا مناص من انشغال الذهن بتساؤلات جمّا عن ماذا نشعر أو ماذا سنكون فيما بعد هذه المرحلة الراهنة من الركود وكم ستستغرق من الوقت وما الذي يجدر بنا فعله أو غيرها من الأسئلة بطبيعة ما نواجه من تحديات. لكن محصّلة ذلك التساؤل المفرط هو توالد الأفكار حول تلك التساؤلات والتي ستتحول بشكل تدريجي إلى حقائق نرى ما حولنا استنادًا عليها. كل ذلك التحول التدريجي يقودنا لتشكيل المخاوف دون أن نشعر أو ندرك ما يجري بدقة.

بمعنى أدق، كلما فكرنا في سؤال ما بطريقة عميقة وغير موجّهة بشكل سليم (ممزوجة بالعشوائية والقلق) سوف نفسر له الأفكار (والتي قد لا تكون إجابات حقيقيّة ومثبتة، بل مجرد أفكار نقوم نحن بتفسيرها)، وبحكم انشغالنا بهذه الأفكار، سوف نجيب عليها بما نراه فيما حولنا من مواقف أو مشاعر، وبالتالي ستنقلب إلى حقائق نصدقها (وهذه هي الطامّة الكبرى)، وأخيرًا سنتصرف على أساسها (تحول الأفكار إلى سلوك)، وهنا تكتمل بداخلنا دائرة وعي مزيفة تحتضن أفكار ومخاوف وتساؤلات مغلوطة تحجب عنا حقيقة ما حولنا لاكتساب وعي سليم وحقيقي. والمشكلة كلها تتلخص في انخفاض درجة الوعي. نعم، قد لا نكون واعين بشكل كافي لما يجري، وأنها محض فترة انتقالية أو ضغوط عابرة لا أكثر بما فيها من مشاعر شتات أو حزن أو قلق. فالوعي الحقيقي قد يكون محجوبًا عنا بسبب ازدحام الذهن بالمخاوف ليشكل بدًلا عنها دائرة وعي زائفة تحتوي كل تلك الأفكار، والمحصلة النهائية المؤسفة هي أن دائرة الوعي المزيفة تلك كلما توسعت بشكل خاطئ (من خلال استيعاب المزيد من المخاوف والأفكار المغلوطة وتحجيمها كذلك بشكل مغلوط) كلما أخذت في ابتلاعك أنت، أجل أنت. فحين تقطن في دائرة الوعي المزيفة، لن تكون مدركًا لما حولك، وسترى ما حولك ضبابًا قاتمًا، وبمعنى آخر، ستبدأ الدائرة المزيّفة بممارسة الوهم عليك لتقوم بتفسير مجريات المشاكل أو القلق أو الكآبة والتعب إلى تفسيرات أكثر ضرر، كتوقع المرض والمصائب والخوف من الضعف، والتفكير في أدنى شيء سلبي قد يطرأ خلال اليوم، كل ذلك دون أن تنتبه كذلك! وهنا بالضبط نفقد صوت ذواتنا المنغمر داخليًّا والمحجوب بفعل تكدس تلك المخاوف، والذي لو أنصتنا إليه لأدركنا بأن كل ما نقلق بشأنه ونتصرف بخوف تجاهه ليس إلا عارض، لا يشكل ذواتنا الحقيقية أو يعطينا صورة حقيقة للحاضر أو المستقبل! أقرب مثال لذلك هو التعامل مع الظلمة، فالطفل الصغير جدًا والذي لم تتشكل بداخله بعد أدنى فكرة حول الظلمة وما قد تجلب له من مخاطر بفعل عدم إدراك تفاصيل الأشياء من حوله مما قد تسبب له الضرر، نجده لا يملك انطباع مخيف تجاهها، والذي يقوده لتصرفات عفوية ومرحة تجاهها. بينما نجد الشخص الكبير أو من يمتلك تلك التساؤلات والمخاطر والأفكار حول الظلمة بشكل مفرط يتحسس من أدنى تواجد لها ويتصرف على أساس ذلك بتجنبها أو الهروب منها.

وكما قيل " The answer is in the question "، أي أن الحل يكمن في المخاوف نفسها، لا سواها. وذلك بتقبل وجودها، ثم مواجهتها بتصحيح النيّة والسلوك، حينها ستتغير الأفكار بديهيًّا. وأعني بذلك أن دائرة الوعي المزيّفة بحاجة ماسّة إلى إدراك زيفها ليتم استبدالها بدائرة وعي صحيحة من خلال تمكين ذواتنا من استقبال حقائق جديدة مناقضة لما نعتقده، ونؤمن بها بنوايانا المخلصة، ونصحح سلوكنا السابق (بشكل إجباري ومع الوقت سيكون عادة سلسة) بسلوك معاكس، يثبت لنا نقيض ما كنا نعتقده. وشيئًا فشيئًا ستبدأ دائرة الوعي الزائف بتفريغ أفكارها وإيلاج ما نمارسه وما نفكر به بشكل صحيح لتتشكل لدينا دائرة الوعي الناضج والتي تطابق ذواتنا التي جُبلت على السلام، حينها وبوضوح ستطفو ذاتنا الحقيقية على السطح ونسمع صوتها.

أتذكر في مرحلة مضت إدراكي كم كان صوت ذاتي محجوبًا بفعل ازدحام الذهن بالأفكار تجاه المستقبل والمسؤوليات والتحديات التي كانت تحيط بي في فترة التيه وما بعد التخرج من مرحلة البكالوريوس، والتي تضع الشخص في مواجهة كبيرة أمام العالم الذي يتوجب عليه إثبات نفسه له، بعد أن كان طيلة فترة الدراسة في مرحلة من الأمان المجتمعي الذي يوفر له الأصدقاء والفرص للعطاء. لم أكن أدرك المرحلة التدريجية للقلق والتفكير المفرط حتى بدا واضحًا على السلوك كالشعور بالتعب والخمول والانطفاء، فشعرت بأن ذاتي (بفطرتها الإنسانية المؤهلة للمقاومة) بأن ثمّة شيء زائف هنا، فالحياة لا تسير في مسارها الصحيح. أتذكر جيدًا ذلك المعنى حين كنت أقف ولأول مرة أمام شلالات نياجرا الضخمة في رحلة صيفية قبل أربعة أعوام، حين أصبت بالذهول من فرط اقترابي من مطلع الشلال، وكيف كان صوت صخب ارتطام الماء بالصخر وانحدارها للقاع، ورذاذ الماء المتناثر عليّ، وصراخي بمتعة تجاهه، رسالة الله في الطبيعة لي كبشر. في ذلك الموقف كان مضمون الرسالة الداخليّة أن من وهب القوة الهائلة والفسحة العظيمة لهذه الطبيعة، قادر على أن يهبني إيّاها كبشر مؤهل للعيش بسلام وقوّة وعزيمة، بل هو قد وهبني إيّاها بالفعل، وأنا مَن يحجبها! 

من حسن الحظ أنني قمت بتوثيق لحظة الوقوف أمام الشلّالات في رحلتي لولاية نيويورك عام 2016.

في طريقنا إلى شلّالات نياجرا.


منظر لبداية وصولنا إلى الشلّالات من الجهة المطلة على كندا.


لحظة وقوفي عند مطلع الشلّال.



أدركت بعدها أن دائرة مخاوفنا ليست بحاجة إلى تفسيرات وتبريرات ومزيد من الحلول، بقدر حاجتها إلى تقبلها وإدراكها ثم البدء بعمل إعادة تدوير للمغالطات المترسّبة فيها بالتجارب الجديدة والشجاعة! فالسماح لنا بإدراك الحقائق من حولنا هي الخطوة الأولى لخرق دائرة الوعي الزائفة وبدء تفريغها. علينا أن ندرك ونتقبل بداية وجود تلك الدائرة المزيف، لنقوم باستبدالها، ولنكون أكثر انفتاحًا لتصحيح مسارات تفكيرنا.

في الحقيقة، خلاصة التجربة تكمن في تصحيح مسار النيّة، لتستقيم النظرة الحياتية، ويتحقق تقبل الذات في كل مراحلها. تصحيح النية ينطوي على ما نقوم بممارسته بشكل يومي، كتصحيح نياتنا في العادات والعبادات، كتصحيح النية تجاه الصلاة بتضمين نية أدائها لتحقيق الشفاء الروحي بدل أدائها كفريضة فقط (أرحنا بها يا بلال). وتصحيح النظرة إلى الذات وجماليتها واستحقاقها لأن تكون بخير، وممارسة كل تلك النوايا فعليًّا وبحب وإيمان (لا بنية: بشوف تضبط أو لا) بشتى الوسائل. بالمناسبة، استوقفتني تجربة تصحيح نية الصلاة من حيث تصحيح قراءة الفاتحة فيها، فهذه السورة بالتحديد لم تُفرض بهذا التكرار عبث. وجدت فارق كبير في قراءة الفاتحة بمحاكاة رسولنا الكريم بمد لطيف في خواتيمها وتفكر أعمق في معانيها، فكانت التجربة خير برهان. كما أن لتجربة تصحيح نية العادة أثر عميق، كعادة التفكير القصير، فبدل التفكير في أمر ما يقلقنا بشكل عميق يؤدي إلى توالد تفسيرات، قم بخلق فكرة واحدة فقط تجاهه وثق بها. كحين تكون في مزاج متعكر وتعب، كن واعيًا بما يكفي لإلقاء الضوء على فكرة واحدة، كفكرة: أنا لم أنم جيدًا اليوم وحسب! فتضييق دائرة الأفكار التي لم تُثبت أمر يوفر لك الطاقة والوقت وصحة الذهن. فالوعي الصحيح والذهن المتيقظ يمكّنك من مراقبة أفكارك المنحدرة دون انتباه، ويمكّنك من استدراك الأمر واسترجاع ذاتك العزيزة في كل مرحلة، وإعطاء كل شيء حجمه الطبيعي، فهذه طبيعة الحياة، بين علوّ وانخفاض، فالإجهاد محطّة للاسترخاء، والقلق وقود للحركة لا الخمول، والعتب والفقد محرّك للتصالح مع الآخرين والنفس، والوحدة دافع لتجديد الذات والأمنيات، والقائمة تطول، وذلك فقط بتغيير مناط النيّة والسلوك. 

التشافي من المخاوف يختلف من تجربة إلى أخرى، ولكنه قابل للتطبيق، وذو نتائج مثرية وتستحق التجربة، كما أنه في إتاحة كل فرد، وذلك بالسماح بمزيد من الحقائق الصحيّة والصحيحة بالدخول إلى الذهن والإدراك والتطبيق. وذلك لا ينحصر في السفر أو العناء لأماكن بعيدة، بقدر ما ينطوي على مصادقة النفس وإعانتها للرجوع إلى حقيقتها التي جُبِلت على السلام، وتجربة أشياء جديدة في العبادة أو الهواية أو الأمكنة أو أي تفاصيل أخرى، حتى في أحلك الظروف. فكلي إيمان بأن في كل منّا قدرة مقاومة وسلام هائلة يجدر به أن يعيها ويحيا بها، ربما تكون قدرتك الداخلية صاخبة كذلك الشلّال، حين يرتطم دون أن يتكسّر، بل ليجري مجدّدًا في سبيل تشكيل مسارات أخرى نحو أقدار تستحقها كإنسان خُلق لكي يكون واعيًا. ما عليك سوى الإنصات للداخل، لكي تصلح الخارج. كونوا بخير.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

ثمن التجربة