ماذا تخبئ الأيّام




في الفترة المنصرمة كثيرًا ما كنتُ أتساءل عن ماذا تخبئ الأيّام. وما عسى للسماء أن تجلب؟ أتراها ستغمرنا بالوابل الصيّب، أو أنّها تنبئ بريح عاتية، تحيل أرواحنا لأرض قاحلة. تعصف بي فكرة التساؤل عن الأقدار، عن شكلها وماهيّة أحداثها، عن الأناس الذين سنرافقهم أو سنفقدهم، عن قلوبنا المتقلّبة، وكيف ستبدو بعد فترة من الزمن. أتساءل، عن حقول الروح، وسواقي المياه العذبة حولها، أتساءل عن جوهر الحب فينا، وعن قطّاع طرقه المتربّصين بنا، أتفكّر في قوافل السنون المقبلة، وخباياها المحمّلة على ركائب القدر. وأتأمّل كيف لعقلي الصغير، أن يحاول جاهدًا أن يتنبأ بجهله المحض جلّ الحقيقة، أو أن يحدس ببضعٍ منها. لكنني وفي حضرة تلك التساؤلات، أدركت معنًا متوهّجًا، أحال تلك الحيرة المدوّية إلى صمت مطبق؛ "أنا عندَ ظنِّ عبدي بي فلْيظُنَّ بي ما شاء".

هذه الكلمات النيّرات بدت تلازمني كلّما راودتني تلك التساؤلات مجدّدًا، حتى غدت منهاجًا أنتهجه في سبيلي، ومبدأً ثابتًا للعيش في مختلف مراحلي الحياتيّة، فاستقرّ القلب في معناها، وطمع في مبتغاها. فحين أتلهّف لإخماد تساؤلاتي الوجوديّة، أجد تلك الإجابات الشافية، بأنّ ما أودّ حدوثه في الفترات المقبلة هو ذاته ما سوف أفكّر فيه، وأسعى إليه، وأؤمن به. ولا أرمي هنا إلى الفأل المحض، بل إلى اجتناب توقّع الشر، فماذا عساي أن أجني من توقّع السوء، أو العسر، أو الإقرار بالتيه، وباستحقاقي للبؤس، في حين أنني أمتلك الخيار في توقّع الأفضل؟ وأعني بالتوقّع هنا الظن بحد ذاته. ذلك الظنّ بحدوث الخير ليس مجرّد هذيان أعمى، يحيل الحياة إلى عالمٍ زهريّ، بل هو الخيار الوحيد لكل عاقل قد أتيح له أن يختار كيف يعيش، فسيختار أفضل ما أُتيح له.

 نعم، نحن نملك الخيار لكيفيّة معيشتنا، ألا وهي كيف نتعايش مع ظروفنا، إننا وإن كنّا في خضم القدر السيئ أو كما نراه (الشر)، فإن بإمكاننا توقّع الأفضل (زوال ذلك الشر) بدلاً من الإقرار باستحقاقنا له، وإن كنّا في غمرة العافية، فسنتوقّع الأفضل (دوام تلك العافية). وتمنينا الدائم بدوام الخير والعافية في عقلنا الباطن سوف يفضي بنا إلى تفسير الأمور ومجريات الأقدار من حولنا إلى الخيريّة والفأل والتقبّل، وبأنّنا لن نُكلّف ما ليس بوسعنا. وهنا أتذكّر كذلك هذه الكلمات العظيمات: "فمن رضي فله الرضا ومن سَخِط فله السُّخْطُ". حينها أستشعر معنا التقبّل، فمن فاض صدره بالتسليم والرضا بالبلاء أو المرض أو الفقد أو غيرها من صعاب الحياة، ولم يشن حربًا على ذاته باللوم وطرح التساؤلات الوجوديّة، وكأنّه المدبّر والمسؤول عن كل ما يجري له، فسيهون عليه الأمر، وسيحل عليه الرضا بتسليمه. وعلى العكس، فحين نرهق نفوسنا برفض الشر النازل بنا، ظانّين بأننا لا نملك القدرة على تقبّله، أو أننا سيئين لدرجة استحقاقنا له، فسنفيض بالبؤس والوهن والسخط. فالإنسان أضعف من أن يحيط بكل شيء علما، وأعقل من أن يحاول الإلمام بذلك، فاستمداد القوة من المدبّر، المخرج الأعظم لحيرة الإنسان الذي يسعى جاهدًا لمواجهة الأقدار بالتفسير والتبرير.

 إن الحياة ستغدو بسيطة إن ظنّنا في كل يوم أن القادم من أقدار الله الكريم سيكون جميلاً، فكما أننا لا نملك حتميّة حدوث الشر، فإنه بإمكاننا توقّع الكثير والكثير من حدوث الخير (لدرجة إتاحة الله الخيار لنا بأن نظنّ به ما نشاء وبالقدر الذي نشاء). وإن صادفنا الشر في أقدارنا، فسوف نتشبث بلطف الله فيه حتى يُمضيه، لإيماننا التام بخيريّته لنا، وبرحمة الله بنا، وعلى هكذا نعيش ونتعايش.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

ثمن التجربة