طريق الشمال وحديث عن القوى





شاهدت قبل فترة وجيزة فيلم طريق الشمال التابع لمنصة معنى الثقافية. تدور فكرة الفيلم حول توثيق رحلة صديقين نحو الشمال سيراً على الأقدام بمسافة ما يقارب 400 كلم، وما يخالج هذه الرحلة من التزامات قطعا على نفسيهما التعهد بها طيلة الرحلة ومنها الالتزام بالتحدث بالفصحى وطهي الطعام وعدم اعتلاء المركبات بشتى أنواعها. كانت رحلة فريدة بالنسبة لي، فلم تنطوي على المتعة والدهشة لتجربة شيء مغاير، بل كانت أبعد من ذلك. كان الصديقين أشبه بالأطفال حين يبحثان عن المفردة الضائعة بالفصحى ليكملا الحديث، وليصفا عمق الشعور بعد موقف ما من المواقف الكثيرة التي صادفاها. وكانا يطهوان الطعام في البرد القارس بأبسط الطرق والوسائل بدقة تامة خشية نفاد الكمية، وقد حصل أن نفد منهما الماء فكان الجلَد سيد الموقف حتى وجدا مورداً على جانب الطريق. والأجمل من كل هذه التحديات ومواطن تربية النفس هو ما اشتمله الفيلم من مصادفات الأسر الكريمة في البادية والخيام والقصور والمنازل، فعلى اختلاف مستوياتهم اتحدوا جميعاً في قيمة الكرم الخالدة للضيف أياً كانت أراضيه، فمجرد وصوله في حمى تلك الأسر، صار أهلاً لهم وشريكهم في المأكل والمشرب والمبيت. فهالني تأصل المبدأ في تلك الأسر، وعدم تأثره بأي مستوى من مستويات الرفاهية أو التحفظ أو تجنب مخالطة الغرباء، فكل يجود بأجود ما لديه في سبيل تخليد تلك النفس الأصيلة.

في الحقيقة، تبادرت إلى ذهني أفكار أبعد من هذا الفيلم، وسبحت بي نحو معانٍ واسعة تتلخص فيما نعج فيه اليوم من المسهلات الحياتية التي تجعلنا في اعتماد دائم عليها، دون الاكتراث بإمكانية فقدانها إجباراً، أو اختياراً بغية تربية النفس على نفسها، وخلق قيم وممارسات تخصها يمكن استثمارها في أي زمن ومكان وعلى أي حال من السعة أو الضيق. بالمناسبة، أذكر حديث أبي حفظه الله عن الخبز حين يأتي به إلينا من التنور ساخناً، قائلاً: تعلموا صنع مثل هذا الخبز بأنفسكم، فقد تحتاجون إلى صنعه يوماً ما. ربما يكون المعنى الذي ارتمى إليه والدي أعمق من إتقان صنع الخبز بقدر ميله إلى أهمية حمل النفس على ممارسة بعض المعايش بنفسها، كالحياكة والطهي على النار والحطب، وإتقان حفظ الشعر والتاريخ والنصوص عن ظهر قلب والتسلق والفروسية وفنون المبارزة وغيرها. تلك القيم التي لن تفنى بفناء سبل الدفاع المسخرة ووسائل الحماية التي تحيطنا وأجهزة التخزين والمستندات الإلكترونية وغيرها! أذكر قديماً في أيام الطفولة حين كنا نشاهد فيلم مولان، تلك الفتاة التي تنكرت بزي رجل لكي تقاتل بدلاً عن أبيها المسن سرّا، علّق أبي ضاحكاً: هل ستقاتلن عنّي في الحرب مثلها؟ فابتسمت وظل هذا السؤال إلى اليوم في ذهني، ماذا لو اضطررت للقتال؟

إننا اليوم نحقق إنجازات جميلة وعظيمة لكنها لا تخلو من الاعتماد على طاقات خارجية كثيرة تسهل علينا قطع تلك السبل، وإيجاد المعلومة الضائعة في ثوانٍ وترجمة الكتب، وتلاخيص البحوث، والتواصل وعقد العلاقات والشراكات، وبناء أفكار هائلة من الثقافات التي تبث من حولنا من كل جانب. فقبل أيام جاءتني طفلة تطلب مني نسخ موضوع تعبيري للمدرسة من جوجل، فتذكرت حين كنت في سنها، كنت آتي لوالدتي حفظها الله لتكتب لي هي موضوعاً تعبيرياً من لغتها الجميلة على الورق المسطر بالقلم الأزرق وأراقب معها كيف تصنع الجملة وتصيغ المعنى. قد لا ندرك أنه في حال زوال بعض الوسائل التي لا نتخيل العيش من دونها اليوم كيف ستنقلب الموازين، وكيف سيكون أصحاب الحِرَف والورق والذاكرة البشرية أكثر أهمية وقيمة من أصحاب الشاشات والهواتف والمنصات الشهيرة. لا أعني ذم وسائل الرفاهية اليوم بقدر توقفي عند قيمة الإنجازات التي نقوم بها وكيف يكون لتلك الوسائل النصيب الأكبر لإتمام تلك الإنجازات لا نسبة القيمة البشرية التي نحتويها. فحين نتساءل لم علينا أن نحمل النفس على تجارب قاسية كامتطاء القطار بدل الطائرة أو المشي بدل السيارة أو الحياكة اليدوية بدل ماكينة الخياطة أو غيرها، في حين توفّر كل ما تحتاج النفس إليه، فلن تكون الإجابة لاحتمالية زوال وسائل الرفاهية بقدر ما ستكون لخلق قيمة للنفس، ولتربيتها لمجابهة أمور وتأملات أكثر عمقا، وتوسيع مداركها بشكل أكبر، بالإضافة إلى بغية عدم تعطيل ما حُبيِت تلك النفس من إمكانيات وطاقات تكفل لها أحقية العيش بأدنى ما يمكن من إمكانيات ومسخرات أودعها الله هذه الأرض، كما أودع فينا تلك القوى الخامدة، أو إن صح التعبير، تلك القوى الخالدة، التي يمكن أن تبقينا ذوي قيمة في شتى الظروف.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني