تأملات الشتاء مع أحمد بهجت

مع دخول موسم الشتاء المحبب، بدأت بقراءة كتاب أعاد إليّ شعور الانسجام مع الصفحة ومافيها، كتاب أيقظ دهشة المعاني القديمة التي تجعلني عاجزة عن التعبير حقًّا، كتاب قررت منحه كامل انتباهي بعيدًا حتى عن القلم المحدد لانتقاء اقتباساته، وذلك من فرط إلهامه وقبساته. التقطته وأنا أتصفح متجر "منشورات حياة"، فجذبني العنوان وقمت بطلبه دون تصفح، وحينما وصلني وقرأت مطلعه، أُعجبت به وأسرعت باحثة عن الكاتب، فأحزنني جدًّا أنه قد تُوُفي.
أحمد بهجت، رحمه الله، كاتب وصحفي مصري، من عباد الله البسطاء والعميقين، الأحرار والبريئين، المزيج الإنساني الذي أحبه وأطمئنّ له. حينها لم أستغرب هذا الإنتاج الأدبي البتة. الكتاب هو "تأملات في عذوبة الكون". مقالات مليئة بالإعجاز الكوني والإعجاز الأدبي، الروح حاضرة في تفاصيل ملكوت الله، تعبُر وتعبّر، بشكل فريد لم يسبق لي أن تذوقته. حتى نصوص عبد الإله بلقزيز (رغم إيماني باستثنائية وتفرد كل كاتب بعيدًا عن المقارنة) لم تمنحني هذا النوع من التأمل الحياتي من جذر نبته إلى فضاءات السماوات. وكما قال بهجت أنه يكتب لأمرين، الكتابة في الصحيفة والكتابة في صفحة الحياة!
في ليلة ما قبل البارحة، كنت أجلس على الأرض متمددة أمام المدفئة على سجادة حجرتي، كنت أشارف على إنهاء الكتاب، ووقفت عند مقالة "ألف لماذا ولماذا" فأخذتني سطورها إلى معنى جميل جليل، فلم أتمالك حماستي وانسجامي في دفء لحظة شتوية قرائية كهذه، وقمت بسرد النص بصوتي مع توثيقه ونشره. ضحكت حين تأملت أنه ومنذ وقت طويل لم يصنع بي كتاب مثل ما صنع هذا الكتاب، يدفعني دفع لا إرادي للدهشة، للإلقاء، وللرغبة في البقاء، حاضرة مع المعنى. هنا فقرة إذاعية قصيرة باستضافته وفيها يتضح أسلوبه وخفة طرحه وبلاغته:
الروحانية، الوصف الإبداعي، الفكر النقدي، الرمزية، الفكاهة السوداء الساخرة، مزيج من المقالات التي تصب في الكون وتصب الكون فيك، فتعي فكرة تشعر بأنها مألوفة، لكنها جديدة في آن واحد. كما هنا، يصف أحمد بهجت البلادة، نحن نعرف البلادة، لكنها جاءت في وصفه في موضع جديد لم يكن استنقاص، بل موضع اقتناص، لأسبابها الإنسانية والمجتمعية، فحين وصفت خطيبة خطيبها بأنها تشعر بأنه بليد، رد عليها بوصف البلادة:
" صمت قليلاً وراح يفكر فيما قالته، أراد أن يقول لها أنه كان صادقا فاعتبره الناس مجنونا فتعلم الكذب، وكان بريئًا فاعتبره الناس أبله فتعلم الخبث، وكان متوهجًا فاتهمه الناس بالتهور فتعلم البرودة، وكان يحس بالدهشة أمام كل ما هو معتاد فاتهمه الناس بالحمق فتعلم البلادة، يومًا بعد يوم راح يبني الأمير النائم داخله سورًا راحت حجارته ترتفع حتى اختنق الضوء وضاع الأمير في الظلام.. وحين مات الأمير داخله لم يعد هناك ما يبهجه، انتزعوا منه بهجة الأشياء وتركوه بليدًا."
وهكذا فعل في وصفه للعشاق، والأحلام، والمخلوقات الكونية كالنور والزهور والشتاء والسحاب والبحر والمطر والطيف وأوراق الشجر، والمعاني، آه من المعاني على لسان بهجت، كمعنى الغيرة والصمت والصدق والصداقة والصدقة والحياة والموت والفن والتاريخ والبصيرة والخير، والشر، والحقيقة، والحب! وأقول أن مَن لديه ذائقة المعنى والمبنى سوف يفهمني حين يقرأه.
تعليقات
إرسال تعليق