ثلاث جواهر مفقودة
كم هي
قريبة من قلبي تلك الأعمال التي تصيغ الواقع بإلهام سينمائي أو تعميق إنساني، لا
يمكنني تجاوزها دون الاستلهام منها والتوقف عند مشاهدها وشواهدها. بالمناسبة، دائمًا
ما أشعر بأن في داخلي شخصية مخرج سنمائي، يقرب العدسة على أدق التفاصيل التي تحقق
هذا المعنى في الملامح والتعابير العابرة، في تفاصيل المكان والشبابيك والضوء
والأرصفة والستائر، في أطراف الطبيعة وصمتها الناطق. ونتيجةً لذلك أقوم بإيقاف
اللقطة حين مشاهدة تلك الأعمال، وأعيدها، وأتاملها،وأحيانًا أوثقها وأحتفظ بها،
فأمتلئ بشعور مختلف يتلبس شعور المخرج تمامًا وهو يقف خلف العدسة ليقرر هل هو راضٍ
عن آداء هذا المشهد؟ هل وصله الشعور كاملًا كما يحسّه؟ هل تلقى رسالته بعنفوان المعاني
والحس الإنساني؟ هكذا أًشاهد.
آخر
ما شاهدت من تلك الأعمال قبل أسبوعين تقريبًا هو فيلم قديم، لكنني شاهدته لأول
مرة، وأظنني سأعتمد مشاهدة الأفلام القديمة الأصيلة وإن كانت بإخراج لا يُقارن
بجودة إخراج الوقت الحالي، لكنها تنافس إنتاج اليوم في دقة صياغته وجودة معناه
وعمق رسالته، حتى الإنتاج التصويري الركيك والأصوات المشوشة أو الإخراج في مستواه
الأولي يرضي ذائقتي ويعجبني بل ويمتعني ولايعيق تلقي القصة بالنسبة لي أبدًا. وهنا
تساؤل عابر، هل نحن في وقت تتراجع فيه جودة المعنى مقابل جودة المبنى إلا ماندر؟!
بالعودة
إلى موضوع حديثي، الفيلم هو "حكاية الجواهر الثلاث" أو الجواهر الثلاث
المفقودة، وهو فيلم سينمائي تم تصويره في قلب قطاع غزة صدر سنة 1995 م، هنا نبذة مختصرة
عن فكرته من منصة Sharjah Art Foundation :
"يعيش
يوسف أحد فتيان الانتفاضة، والذي يبلغ من العمر 12 سنة في عالمه الخيالي، فبينما
يقبع والده في السجن وأخوه هارباً من
الجيش الإسرائيلي، يعتاد الهروب من مخيمات اللاجئين إلى أطراف غزة. وفي أحد
الأيام، وأثناء اصطياد العصافير، يقع في غرام فتاة غجرية اسمها عايدة، والتي تشترط
عليه في سبيل الزواج منها، العثور أولاً على الجواهر الثلاث المفقودة من قلادة
عائلية. تتقاطع جهوده في البحث مع الحياة اليومية لسكان غزة، فيصبح سعيه لإيجاد
الجواهر صورة مجازية عن الحياة ومعناها."
أحببت
القصة وأحببت الرمزية في فكرة الجواهر الثلاثة المفقودة، فهي وإن كانت ثمن لزواج
يوسف من عايدة إلا أنها ثمن لمعنى الحياة. الثلاث جواهر ترمز لروح يوسف، وعايدة
ترمز لمعنى حياته، فمن أجل أن يصل لمعنى حياته سيواجه ثلاثة حدود مفقودة له كإنسان
أولًا، وكفرد غزاوي ثانيًا: حدود الزمان، حدود المكان، حدود الجسد.
فالزمان
هو تقاطع أمنياتنا مع فترتنا العمرية، فيوسف مثلًا تتقاطع حدود طفولته مقابل
أحلامه اليافعة، أما المكان فهو تقاطع تطلعاتنا نحو معنانا مع سقف منازلنا أو
حدودنا الجغرافية، فيوسف يواجه رغبات تحليقه أمام حدود مخيّمه المتواضع والخطوط
المرسومة له لما يمكنه مشاهدته من العالم والحياة، فيقف عاجزًا أمام الجدران الحديدية
للاحتلال. أما الجسد فتتقاطع غرائزه مع اشتراطات المعيشة والمجتمع وقسوة الظروف،
فيوسف رغم صدق وبراءة وحماسة مقاصده، لا يملك أجنحة كطائره الحسون (والذي يظل طول
الفيلم يحمله في قفص كرمزية لتلك الحدود)، ولا يملك أشرعة ليبحر بها (كرمزية جاره
ذلك الرجل الأعمى الذي يدمن الجلوس أمام البحر)، ولا تذكرة طيران ليبني له عشَّا
على الأقل على شجرة أرض آمنة مع عايدة!
أحداث
الفيلم تصوّر يوسف وهو يعطي الحياة دون مقابل، دون أن تعطيه شيء، بل تذكره
بالحرمان. حتى جاره الأعمى، يجلس منتظرًا ليوسف كي يحكي له عن الطقس والبحر والناس،
فهو أعمى لكنه يرى بعيون يوسف، بخيال يوسف، وبصوت يوسف، فهو يجيد التعبير والتأمل
وحتى أثناء نومه يحلم كثيرًا خارج كل تلك الحدود، فيستيقظ بقلب يقظ وأمل جديد، حتى
ظهرت عايدة في حياته واصطدم بالواقع، فالحدود اكبر من خياله هذه المرة ومعنى
الحياة لغز أعمق من تصوراته!
مجرى
القصة يقود يوسف لمعنى الحياة بعد الموت، الأمل بعد اليأس، ولإيجاد البذرة قبل
الشجرة، يُبعث من جديد على وصايا الرجل الأعمى، وهنا رمزية فائقة الجمال، فالوصايا
جاءت من رجل لا يبصر، لكنه يشع بصيرة، فالحدود وإن منعته من التحليق، لا يمكنها منعه
من الغوص داخل النفس وإيجاد مغزى الوجود ونور الله. مع تحفظي في مشهد الوصايا على
بعض الملافظ في ضياغة المعتقد عن الإله والإنسان.
أترككم مع التقاطاتي المختارة لمشاهد أو اقتباسات من الفيلم، فقد لفتتني كل التفاصيل، صوت البحر، منزل يوسف، أم يوسف، المخيم، وجه عايدة وتعابيرها وكلماتها وقسوتها الناعمة،ملامح يوسف لكها، بين الأمل والشغف، اليأس والحزن، الحماسة والطفولة، والبراءة والصدق، وكذلك مزرعة البرتقال والأغصان وضوء أشعة الشمس:
تعليقات
إرسال تعليق