رويدًا باتجاه الأرض
كنتُ في زيارة للبحر هربًا من غرق اليابسة وروتين
ركض المدينة، كنت أحس بحاجتي للساحل لإعادة تشكيل طينتي النفسية، ورويّتي الحياتيّة،
كمحاولة لاستعادة الأنا من أنانيّة المهنة وقائمة التزامات لا تفتأ تستطيل وتتفرع
وتلتف حولي حتى بدأت أنساني وأفقد إنساني.
أمام البحر مارستُ طقوس طفولتي، انغمرتُ في الماء،
وحملتُ الطين في كفّي، جمعتُ الأصداف، وركضت بقبعة القش على جانب الشاطئ بخطوة في
الهواء وأخرى باغتتني بانغراسها في الطين والماء، داعبتُ الغروب بأغنية فلحقتني
الشمس، واستحال غروبها إشراقًا فيّ، رافقتُ أناس أحبهم وضحكت حدّ التبلل بالدموع،
بتّ بمسكن على الساحل واختليت بأحزاني حتى غادرتني بالدموع كذلك.
في اليوم الأخير اغتنمتُ سويعات ما قبل العودة
لزيارة مكان أحبه تربطني به ذكريات حنونة ولحظات خاصة من الدهشة والإلهام، مركز
إثراء. كان الوقت صباحًا وكان الهدوء طاغيًا. لم يكن هناك تخطيط سوى زيارة متحف
للحِرَف اليدويّة ثم الاختلاء بكتاب قيد الصدفة في المكتبة. وفعلًا بعد انتهاء
جولة المتحف الفريدة والتي أخذتني لفرصة التعرف على أسرار مخطوطات أثريّة وتحف
فنيّة وزيارة ركن الروشن الحجازي الذي تتخلله الإضاءة بشكل أثيري وأخيرًا الجلوس
في حُجرة الضيافة الشامية على تكية حمراء محاطة بجدران خشبية منقوشة بأصالة دافئة،
توجهت حينها للمكتبة.
أحب في هذه المكتبة قسم الأدب، أتصفح الكتب حتى أجد من بين أرففها مصادفة أدبيّة لا أقاومها، فألتقطها كي أتناولها مع كوب شاي بالنعناع. المثير هو أنني لحظتُ بأن ذائقتي نضجت كثيرًا، وبت أصنف ميلي الأدبي من مجرد لمح العنوان وتصفح مختصر للنبذة أو من سطرين من السرد. لغة الكاتب تفضحه، كلماته، طريقته في صفها، سطحية أو عمق معانيه، سهلة التجلّي بالنسبة لي، وسهلة التصنيف، أثناء تجولي بين الأرفف صرفت النظر عن كتب كثيرة لم تحز على شرف تلك المصادفة، حتى التقطتُّ كتاب "رويدًا باتجاه الأرض" لإبراهيم زولي، لفتتني ذاكرته ولغته فاخترته!
عبرتُ صفحات الكتاب كله في وقت قصير لكن كانت قراءتي
لها كما عنوانه رويدًا رويدًا، المعاني تتدلى بشكل فاتن ثم تذيقك المعنى حرفًا
حرفًا، الكلمات هنا منتقاة جدّا، لتصف ذكريات الكاتب وسيرته وحكايا ذات سردية
زمنية طويلة لكنه أبدع في اختزالها الشعري بشكل بلاغي حيث لا تتجاوز الأسطر المعدودة
لكن الفتنة في أنها أوصلت المعنى بكل اكتماله وجماله. هنا ما اقتبستُ من لحظات وشيء
من صفحات، تلك السطور التي ألهمتني:
تجلــيــات الفتـــى الأسمـــر:
" قرب تلك البيوت التي تشبه الأصدقاء
نزعت قميص الطفولة، فانكشفت قامتي
هل يعود الصغير الذي عابَثَتهُ الفوانيس حتى يسرّ
إليها حديثًا
فصاح بأعلى صباه وأغفى
ولكنه أضرم الشعر بين سريرته
فأتاه اليقين
ألم يكن الساحليُّ من الماء
-والعابرون أتوا من قوافي الزبد-
كيف سار الغزاة له
وهو محتشمٌ في الجسد! "
مطــــــــــر:
"تظللتُ تحت سماء اللغةْ
فتساقطت الكلمات
على شجر الذاكرةْ
مطــــرًا
وشموسًا صغيرةْ "
بـــــراءة:
"بريءٌ أنا من دم المدن العربية
من تُخمةِ الليل
في عَرصَات مطاراتها
وبريءٌ من الأرض
تلك التي استَجْمَرتْ
بالحجـــــارةْ "
الرمـــــــــاد:
" لم يعد للحقيقة شكلٌ يليق بها... "
الكلــــمـــات:
"الرياح التي لا تهزُّ
الأثــــــاث القديم
ولا تكنس الطرقاتْ
لا تسمّى رياحْ
مثلما
الكلماتْ! "
.....
"سقطتْ زهرة في يدي فارتعدتُ
وهلّت دموع الصبا
فاستعذتُ
لأني رأيت على مهلٍ
يصعد البحر
للمشنقةْ "
أفكر في كيف للإنسان أن يَعْبُر ذاكرته ويعبّر عنها، أن تتدفق منه المعاني من المعاناة ببوح يليق بها ويوصلها إلى بر الأمان وهو خَلَد المتلقي دون أن يمس أو يحرّف ذلك البوح وسرديته مصداق وحيها الذي يتنزل من سماوات تلك الذاكرة. ربما فكرة رحلة البحر هي محاول لعودة ذلك الإنسان فيّ، وقدرته على العودة لذاكرته الأولى ولغته الأولى ولحظاته الأولى حين كان يجوب الحياة في الداخل وقبل أن يجوبها خارجًا، رحلة البحر للانغراس في بطن الطين والعودة للجذور، وامتداد الروح كامتداد البحور، تمامًا كهذا الكاتب الذي -وأنا متيقنة من ذلك- ضرب بروحه أعماق الأرض وآفاق السماء كي يكتب عما فيه بهذه الصفة. الفرق هنا فقط أنني سعيت لذات الشيء كما أكتب الآن، ولكن، رويدًا باتجاه البحر.
تعليقات
إرسال تعليق