زهور ديسمبر – يوميّــات

 


شهر ديسمبر بدأ ليلته الأولى بهدايا وبالونات هيليوم وباقة ورد، كانت مفاجئة لطيفة في جوّ حنون من أسرتي لخطوتي المهنيّة، حرصتُ جدًا أن تمتد حياة تلك التفاصيل، أطلقت بالونات الهيليوم في السماء بعد أن خططتُ عليها رسائلَ القدَر، أما الزهور فقمتُ بفرز أصنافها في مزهريّات مختلفة، انتهى بها الأمر بأن يكون ورد الجوري في منتصف غرفتي، وزهر اللؤلؤيّة ( الذي التقطته في الصورة العلوية) في الزاوية اليمنى بقرب المذياع ومكتبتي، أما زهور الأقحوان فضلتُ بأن تكون على مقربة مني، على سطح مكتبي الذي أعملُ عليه، فكانت الغرفة طيلة الأسبوع بستان متواضع.

بالمناسبة، العناية بالورد تتطلب مجهود خاص، فهي تختلف عن نباتاتي الخضراء الكثيرة التي عاشرتها زمنًا طويلًا، والتي أقوم بريّها كل جُمعة وتتمتع بقناعة عالية بهذه العناية الأسبوعيّة، وتمارس النموّ بشكل زاهي، حتى بدأت تتدلّى من على رف النافذة إلى الداخل، وعلى الكتب، وبقرب إنارة المكتب. أما الورد، فوضعه مختلف، وغروره مختلف، فكنتُ أقوم بنقل تلك الزهريّات نهاية كل ليلة إلى الثلّاجة وتغيير ماءها وتشذيب أوراقها. لا مشكلة، فالشعور بالزهوّ عند تأمّل تلك الزهور الضاحكة كلما دخلت غرفتي كان يستحق.

 

حديث مع السيّد دِميَن 



في ذات الأسبوع أجريت محادثة مع السيد دِميَن، كان يسألني عن سير الأمور في برنامج تدريبي التحقتُ به، وكانت تلك المحادثة هي الأولى للقائي به كونه مسؤول عن إجراء مكالمة بمثابة الاجتماع النصفي لفترة التدريب. بدأت المحادثة بطرح أسئلة قصيرة منه وإنصات شديد لإجاباتي، لرأيي بشكل عام عن الأمر، والنقاط الإيجابيّة التي حزتها وملاحظات عن الأمور المعرقلة في بدء التدريب. أحببت ردّه على كلامي حين قال بأن تلك العرقلات التي ذكرتها أمر طبيعي ولا يمكننا اعتباره كتحدٍ أو مشكلة، لأن الأمر ليس مثالي، وبالأصح كل أمر حتى خارج هذا البرنامج التدريبي وفي الحياة عمومًا ليس مثالي ولن يكون، فنطقها بعفويّة: perfection does not exist.

هنا توقفتُ قليلًا، ودوّنتها على أوراقي: المثالية ليس موجودة..ليست موجودة أصلًا، فكيف يتم السعيّ إليها؟ كانت الجملة كالانتباه، فبعض الأمور في حياتي تخضع لسطوة المثاليّة، صحيح أنني أتمتّع بمرونة كبيرة تجاه الكثير من الأمور، لكنّني أحيط بعض جوانب حياتي بالمداراة الزائدة والمثاليّة المتطرّفة بعض الشيء. أضحكني أبي حين علّق على حرص زائد قمتُ به تجاه أمر ما، فقال لا تفعلي ذلك..هذا غرور، أبي يعرف أنني كنت أحرص ذلك الحرص بدافع المثاليّة، لكن ربما لم تحضرهُ الكلمة أو المصطلح المناسب في تلك اللحظة، لكنني فهمتها، كان يعنيها، بأن لا تكوني مثاليّة.

الشعور بالمرونة والتقبّل للأمور خاصّة إن كانت غير متكاملة في نظرنا، بل جيّدة بما يكفي، هو شعور مريح، المثاليّة كانت تمنعني من ذلك، لأن (جيّد) ربما تعني (ناقص)، ولا أظن بأنه يوجد ضد لكلمة (نقص) غير (الكمال)، والكمال هو المثاليّة، وهنا تكمن المشكلة. ماذا لو كانت الأمور جيّدة؟ يومنا جيّد، آداؤنا جيّد، تفاصيلنا جيّدة، مظهرنا جيّد، جيّدون بما يكفي لأن نكون بخير، ونشعر بذلك، بدل أن نقاوم الشعور بالنقص وعدم الاتزان والرغبة الدائمة في الأجود.

 

صديق ومنضدة خارجيّة




في نهاية الأسبوع، التقيت بصديقتي المحبّبة والأقرب لي، كان لقاءًا روحيًّا، لا أبالغ حين أتحدث عن هذه الصديقة بالتحديد والتي تجمعني بها علاقة تفوق الإثنيّ عشرة سنة. بدأنا بطلب الأطباق الحُلوة ثم الباستا الدافئة بنكهة الريحان، أجمل ما كان في اللقاء هو اختياري لمنضدة على الإطلالة الخارجيّة، فقد كان الجو ليلتها لطيف جدًّا، النسيم أشعرني بالخفّة أكثر ليوازي خفّة الرّوح حين نكون معًا دائمًا. فالحوارات بيننا ليست عن آخر أخبارنا وحسب، بل عن فلسفات حياتيّة وشعوريّات مختلفة ومصارحات صادقة حول مفاجآت الحياة، هذا النوع من الحوارات يثري نفسي، ويأتي في المرتبة الثانية لأسباب حرصي على احتضان تلك العلاقات في قلبي، بينما يأخذ الحب والقبول الروحي المرتبة الأولى.

الجميل في الأمر أننا نمر في مرحلتين مختلفتين، لتكون كل واحدة كمرآة الأخرى، ويبدأ الحوار ب: ماذا ترَى؟ فرؤية تصوّراتك عن مرحلة راهنة من مرآة شخص آخر تثق به مثير للاهتمام حقًّا. فعند سردي لحدَث ما بامتعاض، تنظر إليّ وتعقّب برأي يريني الأمر بمنظور آخر، الجدير بالذكر أن هذا المنظور المغاير منها يعيد تشكيل رأيي المتعصّب  والممتعض قبل قليل، ليكون الأمر أكثر وضوحًا ومصارحة مع نفسي. هل كان الأمر يستحق كل هذا؟ أم كنتُ أعاني من اندفاع نفسي أو شعوري تجاهه؟

في المقابل، حديثها عن مرحلتها الراهنة وقفزتها الاجتماعيّة الجديدة في مشروع الارتباط، ومحاولاتها المستمرة لتبنّي مبدأ المشاركة وفهم الشريك يفتّق بداخلي الكثير من الإشارات التي تعنيها كثيرًا. كأن أذكّرها بصفة أو سمة في شخصيّتها يجدر بها مراعاتها، أو ممارسة أمور محبّبة لها بدأت تتناساها بفعل الالتزامات الجديدة، وغيرها من الأمور التي نعرفها عن بعضنا، ونجهلها في أنفسنا بفعل ضبابيّة تلك الظروف أو المراحل التي نمر بها. فتكون تلك المشاورات فرصة لخلق احتمالات أكثر عنّا وعن تجاربنا واحتضان فكرة ماذا لو، فكل شيء ممكن، كإزهار التفاصيل في موسم شتاء، تمامًا كزهور حجرتي في ديسمبر!



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني