المكتئب ..الإنسان

 


أمقت الاكتئاب، وكيف يتسلل بصمت في المكان والكيان، ليحيل الأشخاص إلى هيئاتهم الشبحيّة، صفاتهم التي لا ينتمون إليها، وجوههم التي تلتبس بهم كأقنعة، لا تقنعني. فأنا أثق بإنسانيّتهم ونسختهم الأصل، وصفاتهم البيضاء بعيدًا عن هذه القتامة. كبراءتهم التي تتبعثر بفعل الوعي المرعب، وغفلتهم التي تستيقظ على أتفه المواجع، وكلماتهم اللطيفة التي تستحيل للتذمّر والضجر، وأعينهم الوديعة التي تتحوّل لينابيع تحتبس الدموع.

كلّ شيء يتبدّل في هؤلاء الأشخاص بفعل ذلك الاكتئاب، والألم يحتل المساحة الأكبر. وحين يبحثون جاهدين عن أسباب ذلك الألم الخفيّ والكآبة الطاغية، لا يجدون جملةً مفيدة تصف السبب والمسبب، فالاكتئاب حين نبحث عنه لن نجده، فهو غير موجود، لكنّه متمكّن الوجود، ذو حضور وسطوة على النفس والملامح والتفاصيل والحياة برمّتها من حول المكتئب. كم أمقت الاكتئاب، أمقته جدًا، فالأشخاص الذين يلتبسون به هم أناس طيّبون، بريؤون، ذوي فطرة نقيّة ونفس صافية، لكن الظروف التي تعرّضوا لها لم يكونوا جديرين بتحمّلها، أو لم تمهلهم الحياة الوعي بها، والذي سوف يمكّنهم من إدراك القدرة على التشافي والإيمان بعد الله بأن النفس التي امتلكت قوّة السماح لتمكّن المرض منها، هي في المقابل تمتلك قوّة مثيلة للسماح بتشافي نفسها. ففكرة أن الشخص المكتئب ليس هو في حقيقته تؤلمني.

فلكل إنسان ذاته الداخليّة التي جُبل عليها، وسماته التي يسمو بها، وفي المقابل شخصيّته التي تتعرّض للخارج وتحتك به والتي تكون بابًا للتعرض للاكتئاب، والسماح لأيديه ومخالبه الخادشة بالتسلل لهذه الذات الإنسانيّة الجوهريّة من الداخل والعبث بها وإخراس الطّيّب واللطيف والحنون والمحب منها، وإعلاء مكانة الذات القاصر، كالأنين والحنين والعزلة والمقت والبؤس والحاجة والضعف والاستسلام.

 كم يحزنني أن المكتئب إنسان جميل، لكنّه منزوع الملامح، وإنسان صادق لكنه متهم بالزيف، وإنسان بهيج، لكنه يضحك بحزن، وإنسان خلوق، لكنه منزلق بغرض الهروب، وإنسان قويّ، لكنّه يخشى الهزيمة، وإنسان واثق لكنه منعوت بالتردد، وإنسان طموح، لكنه مهدد بالفشل، وإنسان محب، لكنه ملجم بالصمت أو مشتت بالتعبير الضبابيّ. وبمجرّد ما يُكتب لذلك الاكتئاب بالرحيل، يتجلّى الجوهر، وندرك الدلائل على البدائل، ونؤمن بأن من حق كل إنسان أن يؤمّن، وأن يُمهل حتى يتبدّل، وأن يحيى بهيئته الجوهريّة، وأن يبزغَ بضياء السحب، وإن كان من وراء الحُجُب!


تعليقات

  1. ذكرتني تدوينتك بفلم Soul لمّا جسّدوا الروح الصغيرة التائهة اللي تراكمت عليها الأغبرة وصنعت منها وحش كبير بمرور الزمن وتراكم المشاعر السيئة.. صنعت منه خلوق غريب ومختلف!
    أعتقد هذاك الفلم كان من أعظم الأفلام العميقة اللي ما زالت تفاصيله حاضرة في ذهني رغم مرور وقت طويل جدا من مشاهدتي له

    ردحذف
    الردود
    1. وصفك الجميل حمسني لمشاهدة الفيلم فأنا لم أشاهده حتى الآن برغم التوصيات الكثيرة..شكرًا لكِ روان.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني