أمّهات اليُمن وآباء البَرَكَة

 


لا أعلم لماذا كلّما رأيت كبار السن أشعر بأنّني مرهفة الحسّ بشكل إضافي، حاضرة الدمعة والشعور، متعاطفة مع حركاتهم وسكناتهم وسرحانهم في الحياة وما كابدوه فيها. قالت لي أختي يومًا اشتقت لجدتي رحمها الله، قلت لها وأنا كذلك، جدًّا. وهنا انتبهت لجذور الشعور، فلم يعد لديّ جدّة منذ أكثر من عام، رحمها الله ورحم سائر أجدادي وأموات المسلمين. فلقد كانت جدتي الراحلة آخر أجدادي. ربما شعوري المرهف تجاه كبار السن امتد من جذور هذا الفقد، امتد ليطال كل كبير في السن حتى أبواي، وإن كانا لا يصنّفان من الكبار كثيرًا، لكنّهما كبرا، فحين وعيتُ، لاحظت ذلك. أسأل الله لهما ولكل المسلمين طيلة العمر بالعافية وحسن العمل، والرحمات لمن توفّي منهم.    

وجود كبار العمر يبارك العمر، يجعله أكثر سلامًا وميلًا للأمان. كما يبارك الأشياء والأوقات والمشاعر. فكم ألحظ كيف تحيط البركات أمّي حفظها الله من كل جانب. فحين تطهو أمي، وتترك القِدر جانبًا، رغم اضطرام الفرن، ينتظر القِدر أمي، ويتمهل الطعام في النضج حتى تعود، على مهلها ورسلها. تعجن أمّي الفطائر، تعد الحساء، تحمّر أفخاذ الدجاج المتبّلة، على مهل، بكل سرعة وبطء. ولو أنني فعلتُ كما تفعل، لأنهيت طهي الأطباق بركام من الأواني والبعثرة والضجر. أصلّي مع أمّي، فتستحيل الركعات قصيرة طويلة، رغم خفّتها، تكون كافية لبث طمأنينة عظيمة في تلك الفريضة، وكلّما رغبت في تلك السكينة، سبقت أمّي قبل أن تصلّي وهي تتجه لسجّادتها لنصلّي معًا. وحين أشكو لأمي، تنكمش الشكوى، وتغدو كورقة معجونة لا تستحق إلا أن تُرمى خلف ظهري، فكلمات أمي البسيطة قد باركتني، جملها الحكيمة جدًا رغم خلوّها من ثرثرات الفلسفة ودلائل الإقناع توقظني، لأنها تُختزل في آية، أو نصيحة من تجربتها، أو مَثَل شعبي ساخر يجعلني أذرف الدمع من الضحك. وفي ضفّة اليُمن الأخرى، ألحظ بركات أبي حفظه الله، خاصّة في توجيهاته الاجتماعيّة أو العلميّة أو الدينيّة، أتلمّس كثيرًا ارتباط أبي القوي والخفيّ بتفكيري ومشاعري، لا أعلم كيف يلقي بعباراته ونصائحه بخفّة لتسقط عليّ كمعجزة في الوقت الصحيح وفي الموضع الصحيح لتبدد أفكار كثيرة غرقتُ بها. يلقي أبي عليّ ملاحظات أتعجّب كيف لاحظها أو أظل أسترجع في ذاكرتي مواقف لم يشهدها، كيف عرف كل هذا، كيف لأب أن يقرأ ابنته من دون سطور. وكأن لأبي معيّة خاصة تحفّني أنا التي لا تلحظها. لأبي حضور عجيب، وبركة تمتد حتى في الغياب، صوت رغم الصمت، وصمت رغم الصوت، ضمير ينوّرني، وقوّة تسكنني. تستقيم الحياة بوجود أبي، يرن منبّهه قبل آذان الفجر، يستيقظ فيوقِظ الفجر. تهليله بصوت رخيم داخلًا وخارجًا يبارك الحجرات ودهاليز المنزل وروحي. أتحدث مع أبي في مواضيع كثيرة، فيجعل من تلك الأحاديث دروسًا وسُرُج تضيء قناعاتي وتتسع لتغمر تجاربي وقراءاتي. ولعلّ كل ما عرّجت عليه هو محض استهلال، فبركَات الآباء والأمهات أوسع من أن تُحكى.

كبار السن والأجداد خاصّة يخلقون بنا انتماء خاص تجاههم. العجيب هو أننا قد لا نشعر بانتماء كبير يصلنا بهم في الاهتمامات والأحاديث والحضور، لكن بعد رحيلهم ندرك أن حياتنا بأسرها متصلة بهم، ببركتهم وبنورهم. وأدق تفاصيل حياتنا سواء في الطفولة أو الشباب مرتبطة بهم، بمنازلهم المفتوحة ومجالسهم التي تلم شملنا كشجرة طاعنة لكنها تتربع بكل دفئ لتحتضن فروعها وأغصانها صيفًا وشتاء، في الوصل أو الجفاء، نعود لذلك الحضن. بقبلاتهم الماطرة وترحيباتهم التي تحفّنا بالأمان، بخوفهم علينا من كل شائكة ووجع، بدعواتهم وصلواتهم لأجلنا. روابط كثيرة تصلنا بهم، تحسسنا بعظم وجودهم أو أثر رحيلهم. صور متفرّقة تداعب الذاكرة، ومشاعر مبعثرة تهب مع كل ذكرى لهم: صباح هادئ وجدتي تتربع على متكئها، تسكب الحليب في أكواب زجاجيّة بنّيّة، ريثما نحبو بكسل للإفطار تأهّبًا للمدرسة، تترنّم لتنشيطنا بألحانها الحنونة: المدرسة المقدّسة...مع الصباح المشرقِ... بكل أختٍ نلتقي.... على رحاب المدرسة ...فتفتح الفصول.. ونبدأ الدخول ( حسنًا، أنا أبكي الآن). نستلقي جميعًا ظهيرة العيد في حجرة بيت جدتي الداخليّة، تتسلل إلينا جدتي بهدوء، تجلس بقربنا، لتبدأ السواليف معنا والتي تجعلنا نتلوّى من الضحك. ألهو في صغري غير آبهة بشيء، يناديني جدي من بعيد، أهرول نحوه، يُمسك كتفاي، يُديرني بخفّة، ثم يشرع بربط خيطيّ حزام فستاني المحلّقة من فرط الركض واللعب. نعم، بعد رحيلهم بأيام كثيرة، ندرك بأن الروابط كثيرة، أكثر من مجرّد ذكريات، بل هي أصول تجذّرت فينا لتحيينا، لكن قد غاب مَن يسقينا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني