جوّانيّات بعد منتصف الليل

 


الساعة تشير إلى الثانية عشر والنصف بعد منتصف الليل، القلب يحبو باتجاه الورق، ويناغي بأحاديث جوّانيّة، لم أفهم ما يريد قوله، حتى كتبت، وهذا ما كتبت..

 

أشياء،

على مهلٍ تتكشف الأشياء، تتعرّى من الفضول والدهشة، والأسئلة والأجوبة، وتطفو فوق سطح القلب، دون تجديف أو عناء، تطفو بحقيقتها، في زمنها الخاص، بخفّتها أو ثقلها. على مهل، مهما كنّا نهرول أو نجري او نستميت لأن نصل إليها، أو أن نحاول فهم تفاصيلها وإدراك كنهها. تلك الأشياء، تأخذ نصيبها منّا، من هواجسنا، نبضاتنا، دمعاتنا، مخيّلتنا، مشاعرنا، لترينا الحقيقة كما هي، وليس كما بكيناها، وعشناها، وحدسناها. وسواءًا أغرقنا أم نجونا، ستطفوا بذات البحر الذي ركبناه، ليشهد العالم عدالتها، كتراديجيا تبتدء بالنداءات المستغيثة، وتنتهي بالتصفيق، وتُنسى.

 

نسيان،

رغباتنا في نسيان ذكرى، تجعل منها أمرًا عالقًا بداخلنا، النسيان لا يستجيب للإذعان، هو يظل مذكورًا ما ذكرناه، وفتشنا في تفاصيلنا عن كل ما ينافي تلك الرغبة، فالذكريات مولج الحكايات، ولن ننسى ما دمنا نستذكر ونفكر. النسيان هبة الدهر، أيامًا فوق أيّام، أعوامًا بعد أعوام، حتى تتبدّل الذكريات، والمفردات، والأبطال، والتضحيات، حينها يستحيل النسيان إلى تذكّر من دون ذكرى، واستشعار من دون شعور، تغدو تلك الحادثات كسيرة ذاتيّة، نقرأها، لكن لا تؤجج فينا الرغبة للعودة إليها.

 

عودة،

من جديد أعود، بكل الوعود، بأن أبرم مع نفسي عهدًا دون خط رجعة، دون التراجع إلى منحدرات انزلقت بها، وهويت إلى قاع سحيق. أعود الآن بنيّة ألا أعود، أن لا أقضي ليلة إضافيّة أو حتى نصفها في سراديب شوّهت فيها بساطة ذاتي، وقداسة قلبي، وطهر أمنياتي. أعود مفعمة باليقظة، متحصّنة بالواقعيّة، ألملم أشلاء المثاليّة، وأنطق قسمًا صادقًا بأنني وجدتني، ولن أضيّعني.

 

صدق،

هل يحتمل الصدق شيئًا من الكذب، شيئًا من الكذب الأبيض، كي نبقى بخير وبقلوب بيضاء؟ هل يحتمل أن نكون أبرياء وأشقياء في آن؟ كي نظلّ أطفالاً؟ أن نجعل للصدق مواثيقنا الكبرى، ونجعل لتفاهاتنا فرصة الإخفاء، وأن نظل برغم هذا أوفياء؟ هل يحتمل الإنسان فينا ذلك، دون أن تروّعه هواجس الضمائر، وتباغته مفاجآت القدر، وتحاكمه نوايا الأقران؟

 

نيّة،

لننوي، فإنما الأعمال بالنيّات، وبها تتحقق الأمنيات، لننوي أن نكون ذوي أجنحة لا تتكسر، وأصوات عالية لا تخبو بفعل الحزن واليأس، ونفوس زكيّة، لا تتدنّسها الظروف السوداء التي تمرّ فيها. لننوي أن نحِب، وأن نحَب، وأن ننجب الحب ونكثّره وننشره، لننوي أن نكون أهلًا لهذه الحياة ولما بعدها، وأن نبدأ كلما انتهينا، وننتهي كلما شعرنا بأننا لم نبتدئ، لننوي أننا سنجد بداية جديدة بعد كل نهاية، وبأننا حتى وإن فقدنا الوجهة، ستنبت من تحت أقدامنا زرعة تشير بغصنها للسماء.

 

إشارة،

حين تشكل علينا العبارة، تكفينا الإشارة، تغنينا النظرة عن العبارات، والقبلة عن المجادلات، والكلمة الشافية عن سطور من الاعتذارات. كم في الإشارة من اختزال للزمن والتردد والأنانيّة، وكم فيها من زخم الشعور. ولو تلمّسنا تلك الإشارات العابرة، لاكتفينا، ولأدركنا بأن في القليل الشيء الكثير، وبأن العطاء يتنامى بالبهاء، ولآمنا بأن القلب يهوى أقصر الطرق إليه.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المرأة من منظور "زمّليني"

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

مواليد التسعينات | بين القناعات والتحديات