قداسة الحُب



حين أحبّ سالم جوديث في رواية برتقال إسماعيل، رأى فيها وطنه المسلوب، وطمأنينة ذاته المضطربة من فواجع الدهر التي لقيها في طفولته. فذلك الرجل الطفل النابت غضًّا من أشجار يافا، لا يتغذى إلا على هواء الحب، حب الجدران التي احتوته، والأرض التي احتضنته، والسماء التي سقته، وحين انفرط منه ذلك الحب، واستحال وطنه إلى هجرة قاسية ونائية بفعل النكبة، لم ير نفسه إلا وهو يغادر وطنه باحثًا عن وطن آخر، بصورة أخرى، وبحنان مختلف. وفي إحدى الأماكن المنزوية في أزقة لندن، أبصر وجهها، تلك الملامح الطفولية التي أوحت له بطفولته، وتلك العينين الزرقاوتين التي أعادت له زرقة سماء مدينته، وتلك الوجنتين التي استعاد بهما نضرة شجرته المنسيّة، وذلك الوجه الدافئ الذي أجج في شتاء قلبه حرارة حنان أمّه التي هجرته. كل ما كان يفتقده غدا مكتنزًا في إنسانٍ يمثل أمامه، ولا يفصله عنه سوى مسافة الأعين، ورجفة الحديث، ورهبة الاقتراب. إنها جوديث.

ولمّا انساب في حبها انسيابًا طغى على مقاومة أصله، وتضاد عرقه، لأنها كانت من أصول يهوديّة، لم يكن منه إلا أن يأذن لها بالاستقرار في قلبه، فقد استحال بُعدها عنه قسوة لا تُحتمل، كما غدا بعده عنها ضعفًا لا تقواه. فتزوّجا وامتزجا، حينها بدا الحب بينهما كما الشمس المتوهّجة، تبسط ضياءها على كل شيء لتنفخ فيه روح الحياة، وملامح الأنس، وبهجة التفاصيل، ودفئ القرب. فجوديث تبث الحب، وسالم يتنفسه، ليظلان على قيد البقاء.

كانت ثمرة ذلك الحب الكبير توأمين جميلَين، أخذا ينموان بملامح تتقاسم أصليّ أبويهما، وحين كبرا أكثر فأكثر تشعبت بهما سبل الهويّتين، وبدآ يتيهان بين مد وجزر، فتيقّظت في نفس سالم جذور موطنه التي يجدر به غرسها فيهما، بينما كانت جوديث تقوم ببناء سور حميميّ لا يفرّقهما، ليعشوا جميعهم بعيدًا عن الوطن، ويكتفون بحضن وطن العائلة. حينها، بدت حرارة الحب بين سالم وجوديث كما الشرارة التي تُنبؤ باندلاع حرب، وبدا سالمًا يشعر برغبة جامحة لاسترداد كل شيء فقده بصورته الحقيقيّة، الأرض ذاتها، والشجر ذاته، والوطن القديم. فاستيقظ من سبات الهيام، وانطلق نحو ضمير استرداد الأوطان، ولم يعد حضن جوديث كافيًا.

مرعبٌ هو الحب إن كان في صورة احتياج شيء آخر، لا لأجل حب الحبيب ذاته، موجعٌ هو الحب حين يؤول إلى الظمأ بعد اللهفة، والهجران بعد الاقتران، والتجلّي القبيح بعد الشغف الخفيّ الخجول. كم من الحب الذي هُدر على أضرحة النضال المزيّف، كم من الحب الذي اغتيل في معارك مهزومة قبل أن تبدأ، كم من الحب الذي لم يكن حبًّا؟

كم من السهل أن نُرمى بكلمات الحب، أن ننزلق في منزلق عذب، يدفعه الانجذاب، دون سؤال أو جواب، وكم من الصعب أن نستيقظ في غمرة العمق، دون أن نجد ما نصدّقه أو نكفر به، دون أن نجد لذة الكلمات الأولى، والوجه الأول، واللهفة الأولى. ونبدأ بخوض معركة أخرى، معركة كيفية التشافي مما قد رُمينا به. والخلاص من مواضع الدفئ التي استحالت حروقًا موجعة.

الحب أقدس من أن يُنتهك، وأعمق من أن يُصدّق من هيئته أو قشور كنهه. وأجلّ من أن يُجمع في الجَنَان، وهو لم يزل على طرف اللسان. الحب ليس للحرب، فالحب لم يُولَد للقتال، أو لكي يُغتال بين اثنين، الحب مولودٌ كالسلام لروحَين، أو كالسماء لجناحين. فالقنص بالحب كرمي الضرير، يُرهق سلاحه، دون أن يحرز بغيته. فمن لم يكن أهلاً لذلك الحب، فلم يرهق النفس بدواعيه، ويظل يكذب على نفسه، ويحجب عن ناظريه حقيقة مآل ذلك الحب؟ فيخوض فيه لكي يتركه في نهاية المطاف خلف ظهره، لم يبدأ حبًّا لن يدوم، ولم يعمّر في قلب الآخر بستان حب سوف يحرقه؟  فلا جدوى من حب وُلد في قلب لم يؤمن به بصدق، وإن كان يصلّي لأجله، ليرتد.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

ثمن التجربة