أكثر من مجرد رائحة





كيف للعطور أن تأخذنا لرحلة سريعة بمجرد استنشاق رذاذها نحو ذكريات من الزمان والمكان في مختلف مراحل الحياة، وكيف أن لكل مرحلة رذاذها العالق بها وبتفاصيلها التي لم تزل تكتنزها زجاجة العطر الذي كنت أقتنيه في تلك الفترة. الجميل في الأمر هو عند استنشاقك لعطر قديم، فإن شريطاً من الصور يمر أمام ناظريك مشكلاً فيلماً سريع لكنه عميق لأحداث مرحلة قد مرت بك، وعند استنشاقك له مرة أخرى فستجتاحك موجة من المشاعر التي كانت تداعب نفسك في تلك المرحلة سواء كانت حنيناً أو حماسة أو حزناً أو شغب طفولة ثائرة. حينها أحسست بالامتنان لزجاجات العطور التي تحفظ جزءًا ثميناً منا بها، والتي تمنحنا الفرصة لاسترجاع شعور جميل قد أفلت منا، أو استرجاع ذكرى عابرة مرت على عجل، فيكون باستطاعتنا العيش معها مجددا على مهل مع نسمات ذلك العطر.

لم يكن هذا الموضوع ليثيرني لولا اقتنائي لعطور قديمة جداً ترجع لأكثر من عشر سنوات، وبعضها أقل، لكنني وبمجرد استنشاقي لها لامست الذكرى بكامل شعورها، لامست الصباحات اللطيفة التي كنت أقضيها مع أشخاص مميزين، لامست منزل الطفولة، ولامست مرحلة كانت مليئة بالشعور والحنين الصادق. فأثار الموضوع اهتمامي، فكيف للرائحة ألا تكون مجرد رائحة، وأن تتمكن من نبش كومة من الذكريات المدفونة منذ سنوات كثيرة. ولأجيب عن تساؤلاتي التي أثارتها زجاجة العطر، شاهدت جلسة مميزة من منصة TEDx لإحدى الموظفات في مجال العِطَارة والتي كانت تحت عنوان "لماذا الرائحة أكثر أهمية مما تعتقد؟".


تمنيت أن أجد المقطع بترجمة عربية لإتاحته للجميع لكن صاحبة الجلسة أبدعت في الحديث عن طبيعة العقل البشري حين تداعبه رائحة قديمة وكيف لعملية استرجاع الذكرى أن تتم في الجهاز العصبي. ونوّهت على أن الذكريات التي تكون حاضرة بمجرد استنشاق الروائح هي ذكريات قوية جداً وطويلة الأمد لدرجة مكوثها في الذاكرة لفترات طويلة جداً من المراحل العمرية بالرغم من أن الشخص قد لا يتمكن من تذكر اسم العطر أو معرفته لكنه يدرك الرائحة جيداً إن اشتمّها في مكان ما، والتي ترتبط لديه بذكريات ومشاعر خاصة.

الجدير بالذكر هو أن عملية استنشاق العطر تتم من خلال استقبال الناقلات العصبية لمكونات العطر ونقلها إلى النظام الحوفي في الدماغ (وليس القشرة المخية) وهو نظام مسؤول عن الذاكرة والانفعالات والمشاعر كالحب والحنين والغيرة وغيرها. وأكدت على أن البشر إن لم يدركوا أهمية تأثير تلك الروائح عليهم، فإن العطارين يدركون ذلك تماماً من خلال إنتاج العطور بدقة متناهية بعيدة كل البعد عن العشوائية لكي تثير مشاعر محببة للعملاء. فتلك الروائح تحفز العلامات التجارية على التوجه نحو الروائح المتجانسة في منتجاتها، كبعض مساحيق التنظيف العطرية التي يتم تصنيعها من خلال دمج مكونات عطرية معينة.


 مسحوق تايد كان أحد الأمثلة والذي يتكون من رائحة الحمضيات لإثارة مشاعر الشعور بالنظافة ورائحة الفواكه الحلوة لتعزيز شعور الراحة وأخيراً رائحة الورد لاستثارة شعور الحب والاهتمام. فإن لتلك الروائح بالغ الأثر على مستخدمها، كقصة الفتاة التي تتذكر شخص أحببها كلما استنشقت مسحوق تايد وذلك لارتباط المشاعر التي تثيرها رائحة المسحوق بمشاعرها تجاهه. إن المنتجات العطرية والعطور تحديدًا تصنع ذكرياتنا فعلاً وتشكل سلوكنا.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

ثمن التجربة