October | الحب الصامت





تشدني دائماً تلك القصص المفعمة بالشعور والمعاني العميقة المبطنة في التحركات الدقيقة، كحكاية فيلم أكتوبر. تدور حكاية الفيلم حول شاب يدعى (دان) يعمل في إدارة أرقى فنادق المدينة، لكنه لم يكن مستمتعاً بعمله، فكان كثير التذمر والتفريط في شتى المهام التي توكل إليه مما أدى إلى مساءلته من قبل إدارة الفندق وتعرضه للتوبيخ ليقدم وابلاً من الاعتذارات لإبقائه على قيد العمل كما يفعل في كل مرة، بينما كان رفقاؤه ذو سمعة حسنة والتزام مخلص بالعمل ومن بينهم (تشيولي) التي عينتها الإدارة كمرافق لدان في العمل. كانت تشيولي عكس دان تماماً، فقد كانت فتاة متفانية جداً في عملها وكانت تنظر لزميلها دان نظرة تأنيب حيال ما يقترفه من تخبط في العمل وسلبية تجاه الأمور بفعل اعتياده على التوبيخ والتأنيب له من قبل عائلته وإدارة العمل، مما يضطره للجلوس وحيداً بشكل دائم، حتى صادف غيابه يوم العيد واجتماع رفقائه جميعهم في سطح الفندق لقضاء الاحتفال والسهر سوياً ومن بينهم تشيولي التي سألت رفاقها بشكل عفوي "أين دان؟" ثم لم تكمل جملتها بفعل انزلاقها من الأعلى حتى الأسفل في حادث شنيع أودى بها لغيبوبة ومضاعفات جسدية خطرة.

من هنا تبدأ الحكاية، فبعد سقوط تشيولي، خيم الحزن على رفقاء العمل كافة ومن بينهم دان الذي بدأ بمتابعة حالة تشيولي بشكل دائم وحرص مفرط يجهل سببه، فكان يقضي الليالي الطوال في المشفى، ويحاول التحدث معها لإفاقتها دماغيًّا، ويراجع الأطباء باستمرار حول أي مستجدات بخصوص حالتها الحرجة، بل ويبدأ باسترجاع تشيولي في ذاكرته، ولتفاصيلها الدقيقة وكأنه يتعرف عليها للتو، فبدأ بتذكر ما تحب وما تفضل من العطور، فتذكر زهر الياسمين الذي يعد أكتوبر موسماً له، والتي اعتادت تشيولي أن تقطفه وتجلبه على سطح مكتبها في العمل، فبدأ بإحضاره لها في المشفى.

 دان أصبح شخصاً مختلفاً، أصبح شخصاً يسير خلف الفأل والأمل بدلاً من الإحباط واليأس، بل أصبح شخصاً مسؤولاً ومتفانياً بعد أن كان في تخبط وتذمر. ثمة شعور خفي بدأ بالتشكل في داخل دان تجاه تشيولي، رغم صمتها ونومها العميق، رغم أنها لم تكن تعني له شيئاً قبل ذلك أو يعني هو لها شيئا. كان الصمت بينهما سيد الحكاية وكان الشعور الذي يكبر كل يوم بينهما كمعجزة لذلك الصمت.

ما شدني في الأمر هو تجسيد ذلك الإدراك الخفي في دان تجاه نفسه وحياته وتحسينه لوضعه بفعل صمت تشيولي. كيف للصمت أن يخلق الحب والثقة والدعم، وكيف للحب أن يجعل من الشخص إنساناً مسؤولاً ومتفانياً، وكيف للفقد أن يحيي استحضار الماضي، فيسترجع دان كل المواقف التي كانت بينهما ببساطتها كمطلع قصة لم تكتمل، لكنها تكتمل الآن بشكل غريب في حين أن كلاهما لا يمكنه محادثة الآخر أو بناء علاقة معه. ربما كانت الروح عنوان الاتصال بين دان وتشيولي، فلغة الأرواح أعمق من لغة الأجساد والكلمات والتواصل المستمر. فبإمكان الاتصال الروحي بين الشخصين أن يشكل ميثاقاً غليظا يحتم على كليهما الارتباط بصورة يتعجبان منها برغم كل المتناقضات من حولهما وبرغم الظروف الصعبة في صورة أشبه بدان وتشيولي وقصة الحب الصامتة.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المرأة من منظور "زمّليني"

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

مواليد التسعينات | بين القناعات والتحديات