أقصوصة: فتيل وعويل





منضدة في زاوية الحجرة، وشمعة متراقصة تكسر كآبة الصمت المهيب، دخل منهكاً بعد يوم فارغ، تكتسي ملامح وجهه شيئاً من الشرود والبلادة. لمَ يظل مسكني أشد وحشة من العالم الخارجي؟ ألا يفترض أن يكون المسكن جنة الفرد بعيداً عن فظاعة ما يجده خارجه؟ تساءل في نفسه بصمت كعادته، فهو لا يجيد التحدث بصوت مسموع من فرط الوحدة. لكنه لم يجد جواباً من أفكاره، ووجد الجواب في شمعته المنزوية بخجل، حين بدأت تتراقص بشكل أسرع وتنفث الدخان النحيل، وكأنها تقول له، لأنك تهجر هذا المكان كثيراً، فهو لم يعد يعطيك، فأنت لا تعطيه، ألا تعلم بأن الأماكن تحنّ كذلك؟ فأخذ يقترب منها، ويتأمل فتيلها الضئيل، كيف له أن يقاوم الظلمة، ويظل ينفث ناره ونوره طيلة الليل والنهار حتى يهبّ النسيم البارد من الشرفة فيقضي عليه. جلس على مقعده المهترئ وألقى برأسه المثقل على سطح المنضدة المائل مستنداً على ذراعيه الخاويتين. لم كل هذا الخواء، لم كل هذا الصمت الذي يجتاحني رغم تزاحم الكلام بداخلي وتفجّر الشعور بين جنبيّ؟ لمَ لمْ أعد أتحدث، بل لمْ أعد أرغب بالحديث؟ أهكذا يصنع الفقد بالإنسان المسكين، أم هذا ما يجنيه من حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، سوى البكاء على تساقط الأحبة واحداً تلو الآخر كأوراق شجرة طاعنة في شهر أيلول؟ ما الذي يتوقع الإنسان أن يجنيه من رائحة البارود والتعثر في رماد منزل كان قد ترعرع فيه، ما الذي سوف يجنيه بعد الوقوف أمام لفائف عريضة تكتسي بالبياض والحمرة ليحاول جاهداً الإدراك بأنها جثمان ذويه بعد قصف لم يمهله توديعهم؟ إن فظاعة الحرب أشد من أن توصف بالكلمات أو أن يتساقط ألمها الهوينى مع الدمعات. فالحرب حربان، حرب في ساحة المعركة وحرب في صدور الأنفس والتي تبقى ندباتها أشد وطأةً من الهدم والحرق، وتظل تعيد شناتها في كل ذكرى فقد عابرة تحيل النفس إلى جنديّ مهزوم. وببطء امتدت أصابعه النحيلة نحو الفتيل ليطفأه براحة كفه لكنه ودون إدراك اتجهت أصابعه لملامسة وريقات قد دُست خلف الشمعة، فالتقطها بهزال، ساخراً منها، ومن فراغها حتى من السطور. نهض متلفتاً، يبحث عن قلم عهده هنا، منذ آخر يوم صادف فيه صاحب المنزل ليخط به توقيع دفع الإيجار الشهري. فوجده أخيراً ملقى أسفل الشرفة، قد التفت حوله شعيرات الأتربة. وظلت الشمعة تتراقص بشكل أشد بفعل اهتزاز المنضدة، فهو يكتب بنهم وحماس شديدين، لم يعهده منذ أن اتخذت نفسه الصمت رفيقاً وتوأما. فكانت الصفحات تمتلئ بشكل سريع من فرط انكبابه عليها بحبر القلم وبحر الدمع، والأغرب من ذلك، تلك الابتسامة المرتسمة على وجهه البريء وذقنه الناعم، كان كمن وجد ضالته وأنسه، فالكتابة تعالجه والمنضدة تحتضنه، والصفحات تقبله، والقلم يحادثه، وبدا يسمعه، يسمع عويله وأنفاسه، وينزف آلامه من عمق ندباته، وظل في غمرة اللقاء بنفسه ساعات طوال لم يعد يدرك كم هي، فهو يغط في نوم عميق، مستسلماً لنسيم الشرفة اللطيف، يتوسد الصفحات، وخده الباسم، وحضن حروفه الدافئ.


تعليقات

  1. أحيي مجهودك وأسلوبك بشرى :)

    ردحذف
  2. هل تحن الحروف لقلمك..وتتسابق لرأس القلم ليخرج كل هذا..الإبداع
    أم هو امتزاج عدة عوامل خيالك، المكان، الهدوء، والمصباح الخافت، صوت الورقة المتحركه..⚘

    ردحذف
  3. nawartaha

    شكرا لذوقك الرفيع عزيزتي.

    ردحذف
  4. غير معرف

    كلماتك استوقفتني وتعبيرك خالج القلب، شكرا 3>

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني