كيف تسلبنا الظنون
بالأمس
وبعد متابعتي لحلقة مسلسلي الذي أشاهده، استوقفتني من خلال أحداثه فكرة الظنون
وكيف لها أن تتخلل نفوسنا وحياتنا بطريقة مرعبة، بل قد تسلبنا وتتحكم بنا دون وعي
منا، فتبني بداخلنا جبالاً من ثوابت من أصل ذرة من ظن عابر. يقول رسولنا الكريم
عليه الصلاة والسلام: الظن أكذب الحديث. والمعضلة الكامنة في هذه الفكرة أننا قد لا
نميّز الظن من بين الحقائق، فتبنى الثوابت في نفوسنا على الظنون دون بيّنة، وتسير
على إثرها أفعالنا وقراراتنا تجاه الأشخاص الذين نحتك بهم أو الأمور التي نختلط
بها. فقد نعتقد بأمر ما ونعتبره حقيقة ثابته فنقبل تبعاً لذلك على فعل جيد أو سيء
لكننا لا ندرك تبعاته إلا بعد أن تنكشف الغمة وتصل تلك الحقيقة المزيفة إلى جدار مصمت
لتبوح بأنها ليست حقيقة، وأنها لم تكن إلا ظناً، وبأنها لا يمكنها أن تؤدي إلى شيء
سوى الشعور بالندم على ما قمنا بفعله، فيكون الندم حينها ختام تلك الحكاية.
لم
تكن لتتشكل تلك الفكرة السابقة في ذهني لولا تصويرها في المسلسل بوضوح في موقف
امرأة ثلاثينية تلتقي بجارها الشاعر فتغرم به من بعد كلمة عابرة ألقاها عليها بأنها
أجمل امرأة في العالم كما هي عادته في إلقاء الكلمات والعبارات اللطيفة بعفوية
صادقة من قريحته التعبيرية دون أن يأبه حقاً بحبها شخصيًّا أو الإعجاب العميق بها
كما تظن هي. وقد علمت هي مؤخراً بأنه رجل متزوج لكن امرأته تقطن خارج البلاد، حينها
تلاقطتها أمواج الأفكار من حيث لم تحتسب، وبدأت تتساءل عن حقيقة محبته لها، فكانت
بانتظار أي حقيقة تثبت مدى عمق شعور ذلك الرجل تجاهها. فيحدث أن يمر ذلك الشاعر
بضائقة مالية اضطرته إلى بيع خاتم زواجه، والتوجه إلى طلب المال من صديقه، لكنه
وجد وضع صديقه حرجاً فتوجه إلى جارته مرغماً لكي يوفر مبلغ المال بأي وسيلة، فكان مظهر
إصبعه الخالي من الخاتم وتوجهه إليها لفك ضائقته (ظناً منها ببدء تخليه عن فكرة إكمال
ارتباطه بزوجته، ولجوئه إليها هي وحدها من بين الناس) كحقيقة ارتسمت في مخيّلتها
تثبت صدق ظنونها، دون أن تدرك بأنه فعل ذلك اضطراراً لا اختياراً بعد سلسلة من
المحاولات مع أشخاص آخرين. لكن تلك الظنون كانت محل ثقتها مما دفعها إلى محبته بشكل
صريح.
بصرف النظر عن تلك الأحداث ومنطقيتها، لكننا قد نواجه في حياتنا الواقعية مواقفاً عديدة غير مكتملة السياق، تفضي بنا إلى تفسيرات تستحيل إلى ردات فعل نعتقد بأنها مدروسة لكنها لم تكن إلا استجابة إلى ظنون غير مضمونة أو مأمونة! أتساءل، كم من الحقائق التي حدثت في غيابنا مقارنة بالتي شهدناها في حضرتنا، وكم من تلك التي حدثت في غيابنا قد أُهملَت في أذهاننا لاستكمال حكاية ما ظنًّا منا بأن مصادر الحكاية جميعها قد تكشفت وغدت في حوزتنا، بل كم من حكاية رسمناها في مخيلتنا وبنينا عليها الحقائق، وشرعنا لها أبواب التفكير والحيرة، والمشاعر المتناثرة، دون أن نعي ما وراء تلك الحكاية، وما وراء تلك الكلمة أو الفعل الذي تلقيناه.
نحن نعلم بأننا لا يمكن أن ندرك كل ما حولنا، لكن التأني في كل فعل كاستجابة لتلك المواقف الغير مكتملة السياق هو مفتاح الاتزان في التصرف تجاهها. فإقدامنا على ردة فعل مباشِرة دون إدراك جوانب تلك الفعل (والاعتبار باحتمالية غياب بعضها عنا) ستمكن الندم منا لاحقاً، ستجعل منا أشخاصاً يكثرون لوم أنفسهم على تجاربهم في إطلاق مشاعرهم تجاه من لا يستحق، أو كره من يستحق المحبة، أو الندم على إلغاء فرص حياتية أو خوضها. كما أن فتحنا لنوافذ مشاعرنا أو قراراتنا على مصراعيها بمجرد تلقي إشارات بسيطة وبناء حكايات عريضة من خلال تلك الإشارات لم يكن إلا شرارة أوقدناها بأيدينا، لنقع في فخها متسائلين كيف لتلك الخسارة أو الخيانة أو التعلق أو الفشل في تجربة ما أن يحدث هكذا؟ وبشكل متسارع؟ في الحقيقة هو لم يحدث بشكل متسارع أو بمحض الصدفة، بل كان نتيجة لكل تلك السلسلة التي أقدمنا عليها خطوة بخطوة طواعية. وأرى أن من صور التأني أن تسعى لتلقي الحكاية مكتملة، وأن تسمع الجملة بدل الكلمة، وأن تفهم الشعور بدل النظرة، وأن تلتمس الاعتراف بدل الإحساس وأن تبني تصرفاتك الحياتية تجاه الآخرين والأشياء والحادثات على المكنون لا الظنون، لكي تبدو واعياً وأكثر قناعة بما تقوم به ومؤمناً بعواقبه على أية حال.
بصرف النظر عن تلك الأحداث ومنطقيتها، لكننا قد نواجه في حياتنا الواقعية مواقفاً عديدة غير مكتملة السياق، تفضي بنا إلى تفسيرات تستحيل إلى ردات فعل نعتقد بأنها مدروسة لكنها لم تكن إلا استجابة إلى ظنون غير مضمونة أو مأمونة! أتساءل، كم من الحقائق التي حدثت في غيابنا مقارنة بالتي شهدناها في حضرتنا، وكم من تلك التي حدثت في غيابنا قد أُهملَت في أذهاننا لاستكمال حكاية ما ظنًّا منا بأن مصادر الحكاية جميعها قد تكشفت وغدت في حوزتنا، بل كم من حكاية رسمناها في مخيلتنا وبنينا عليها الحقائق، وشرعنا لها أبواب التفكير والحيرة، والمشاعر المتناثرة، دون أن نعي ما وراء تلك الحكاية، وما وراء تلك الكلمة أو الفعل الذي تلقيناه.
نحن نعلم بأننا لا يمكن أن ندرك كل ما حولنا، لكن التأني في كل فعل كاستجابة لتلك المواقف الغير مكتملة السياق هو مفتاح الاتزان في التصرف تجاهها. فإقدامنا على ردة فعل مباشِرة دون إدراك جوانب تلك الفعل (والاعتبار باحتمالية غياب بعضها عنا) ستمكن الندم منا لاحقاً، ستجعل منا أشخاصاً يكثرون لوم أنفسهم على تجاربهم في إطلاق مشاعرهم تجاه من لا يستحق، أو كره من يستحق المحبة، أو الندم على إلغاء فرص حياتية أو خوضها. كما أن فتحنا لنوافذ مشاعرنا أو قراراتنا على مصراعيها بمجرد تلقي إشارات بسيطة وبناء حكايات عريضة من خلال تلك الإشارات لم يكن إلا شرارة أوقدناها بأيدينا، لنقع في فخها متسائلين كيف لتلك الخسارة أو الخيانة أو التعلق أو الفشل في تجربة ما أن يحدث هكذا؟ وبشكل متسارع؟ في الحقيقة هو لم يحدث بشكل متسارع أو بمحض الصدفة، بل كان نتيجة لكل تلك السلسلة التي أقدمنا عليها خطوة بخطوة طواعية. وأرى أن من صور التأني أن تسعى لتلقي الحكاية مكتملة، وأن تسمع الجملة بدل الكلمة، وأن تفهم الشعور بدل النظرة، وأن تلتمس الاعتراف بدل الإحساس وأن تبني تصرفاتك الحياتية تجاه الآخرين والأشياء والحادثات على المكنون لا الظنون، لكي تبدو واعياً وأكثر قناعة بما تقوم به ومؤمناً بعواقبه على أية حال.
السلام عليكم بشرى
ردحذفوودت القول أنني أتابع مدونتك منذ وقت حديث ويعجبني ويسعدني ما تكتبين بها، أعذريني أفعل ذلك من وورد برس فلا أتمكن من وضع إعجاب أو كتابة تعليق بسهولة
كل الشكر لك على ما تكتبين وأتمنى لك الاستمرار :)
nawartaha
ردحذفوعليكم السلام ورحمة الله..
الشكر لك أنت عزيزتي على مرورك، فقد أنرت صفحتي بكلماتك الطيبة التي تنم عن حسن ذوقك،
تسعدني متابعتك وأعدك بالاستمرارية بإذن الله =)
(فقد نعتقد بأمر ما ونعتبره حقيقة ثابته فنقبل تبعاً لذلك على فعل جيد أو سيء لكننا لا ندرك تبعاته إلا بعد أن تنكشف الغمة وتصل تلك الحقيقة المزيفة إلى جدار مصمت لتبوح بأنها ليست حقيقة، وأنها لم تكن إلا ظناً)
ردحذفحقيقة مخيفة نوعا ما ، حبيت التدوينة 🌷
(فقد نعتقد بأمر ما ونعتبره حقيقة ثابته فنقبل تبعاً لذلك على فعل جيد أو سيء لكننا لا ندرك تبعاته إلا بعد أن تنكشف الغمة وتصل تلك الحقيقة المزيفة إلى جدار مصمت لتبوح بأنها ليست حقيقة، وأنها لم تكن إلا ظناً)
ردحذفحقيقة مخيفة نوعا ما ، حبيت التدوينة 🌷
ردحذفDawndepth
شكراً لك ..أسعدني مرورك =)