باب ما جاء في سحر الحب





لكل امرؤ قصته في اكتشاف معنى الحب، فمنهم من عاشها ويظن بأنه أدرك معناه وهو في الحقيقة لم يدركه لكنه قد حكم عليه بالمعنى الذي عاصره بين حدود حكايته. ومنهم من لم يعشه لكنه بدى متمسّكاُ ومتلبّساً بمعنى الحب الذي قد نسجه الآخرون من الذين عاصروا مشاعراً أطلقوها عليه ونسبوها إليه دون أدنى حق أو حقيقة.ومنهم من أدركه فعلم أنه الحقيقة المحضة وما سواه كان حلماً أو شبه يقظة. إن الحب الحقيقيّ بين الرجل والمرأة أشبه بالبذرة، التي لا تشق سبيلها، إلا بعد اختبارها للتربة التي قد ُغِرسَت فيها، وللماء الذي سوف يسقيها، وللشمس الحارقة أو الظلال الوارفة أو النور المزيّف، وللهواء القارص أو النسيم العليل، وللوجهة والدليل، فانشقاق تلك البذرة يبحث عن وجهة العلوّ والارتقاء لا التغلغل في الدنو والالتواء. فيمكننا القول بأن ذلك الحب ينخلق بعد الامتزاج بين الكمال والاعوجاج، بعد التفرّس في طبيعة كليهما، ومعرفة روحيهما، ومعاصرة الأفراح والأحزان. فكل ما سوف يعاصرانه يبدو كعوامل البيئة المحيطة بتلك البذرة الصمّاء، التي تُضاف على مهل، لكي تحيلها إلى شجرة غنّاء، تزهر وتثمر بقدر ذلك العطاء، فتخلق شجرة حبّ وارفة أو زهور ودّ متواضعة أو أغصاناً تالفة. ولم يكن الحب تلك الجوريّة التي تُقطف قبل بزوغها وتُلَف في وريقات الرسائل الهائمة، والقصائد الحالمة، باسم الحب! ولم يكن يملك صفة الوقوع كما يُقال دائماً (وقع فلان في الحب)، بل صفته صفة الرقيّ والسموّ.

كثيرة هي المشاعر التي أسموها حبّا ولم يكن الحب إلا حبّا واحداً لا شبيه له. إن ما قبل الحب الحقيقيّ يبدو كالسحر، وذلك بفعل الغموض الذي يكتنف الإنسان تجاه الطرف الآخر والذي يودّ اكتشافه، فيبدو ذلك الغموض مثيراً للنيل والحوز، وجميلاً وفاتناً لأنه لم يزل بعيداً عن النوال، ومغرياً كالمحال! ولم يزل كذلك حتى يزول بتكشّف الأجوبة والشفرات، فيدرك أنه كان إعجاباً أو محض شعور بالانجذاب، بالمناسبة، الحب الحقيقيّ لا يجذبك، بل يتبعك.. حتى يستقر ويبقى معك، ويتكاثر ويتفرع بالمودّة والرحمة والحنوّ.

وأرى ذلك الشعور البدائي بالسحر والشغف بالآخر فاضحاً لنفسه في كثير من المواضع بأنه مؤقت فعلاً، ولم يكن حباً حقيقياً. يقول نزار قباني في أبياته الشهيرة: أحبيني بلا عُقَدِ.. أحبيني لأسبوع ٍ، لأيامٍ، لساعاتِ، فلستُ أنا الذي يهتمُّ بالأبدِ. وكأنّ ذلك الولع يشير إلى نهاية لابد من الوصول إليها، بينما يولد الحب الحقيقيّ بعد النهايات!

قد يكون الشعور بالحب في بادئ الأمر حقيقياً فيلتبس على الإنسان ماهيّته ومصداقيّته، فيُقدِمُ عليه إقدام المناضل المقاتل بكسر حدوده وتجريد قيوده، وكان لزاماً عليه لكي يتحقق منه أن يمهله، ويكرم ضيافته ووفادته بسقيا تلك البذرة (ذلك الشعور بالميل للطرف الآخر) في موضعها الملائم لينتظر الثمرة. فالحب لا يشبه العناء والأسر والبكاء والهجر والتشرّد عن النفس، بل هو الاكتمال بعد الانفصال، و السكينة بعد الشتات، والعنفوان بالتجانس، والتضحية بالتراضي، والمضيّ بثقة للمستقبل على عتبات تجارب الماضي. الحبّ يبدأ بعد ليل طويل، مع بزوغ الفجر، وبعد فك السحر.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

ثمن التجربة