أبريل .. وذكرى الهديل





يرتبط شهر أبريل لدي بالراحلة هديل الحضيف رحمها الله، ودون تذكير أو الاستعانة بمنبهات التقويم، أتذكر رحيلها بتلقائية، والذي بدأت حكايته في الواحد والعشرين من شهر أبريل سنة 2008 حين غابت عن الوعي بعد ذكرى ميلادها بيومين واستمرت في سباتها حتى فارقت الحياة في السادس عشر من مايو لذات السنة. هديل الحضيف المدوّنة والقاصّة السعودية والملهمة الأولى لي، والتي لم أعرفها إلا بعد وفاتها، أعتقد بأن معرفة شخص بعد رحيله والعلّق به هو العجيبة الثامنة لعجائب الدنيا. كنت أجلس أمام شاشة التلفاز دون الاكتراث بمحتوى الشاشة، بل كنت أقرأ شريط الرسائل أسفلها. كان الشريط مليئاً بالتعازي والكلمات المفجوعة إثر رحيل فتاة تدعى هديل، وسمعت من حولي كذلك يتحدثون عنها بكلمات لطيفة، كنت في تلك الحقبة لا أملك أدنى فكرة عن التدوين والمدونات، لم أكن أدري ما الذي جعلني أهرول لجهازي المحمول وأكتب في محرك البحث اسمها حتى تظهر لي مدونتها "Heaven's Steps" أو " باب الجنة"، لم أكن أدري ما الذي كنت أودّ البحث عنه أو الوصول إليه. وحين ظهرت أمامي جنّتها الخاصة، سبحت في أرجائها ولم أعد حتى هذه اللحظة، فلم أزل أقرأ وأقرأ حتى ارتويت من أحرفها أشد الارتواء، إلى أن قرأت كل ما نسجته روحها بدقة عالية وكأنني قد عرفتها شخصياً، فهناك اختلاف بين أن تقرأ لأحدهم وبين أن تقرأه! أحسست بأنني دللت طريقها وإلى أين ذهبت، بل وإلى أين يجدر بي أنا أن أذهب.

أجمل ما قد حدث، هو أن والدها محمد الحضيف خشي من ضياع مسيرة هديل التدوينية بين صفحات عالمها الافتراضي، والتي قد تتعرض لتلف الروابط الإلكترونية أو ما شابه (كما حدث فعلاً واختفت مدونتها من عالم الإنترنت). فقام بجمع محتوى مدونتها كاملاً في كتاب أسماه "قارع باب الجنة"، والذي حوى كافة تدويناتها السياسية والإنسانية والثقافية. حيث يعتبر ثاني كتاب باسمها بعد كتابها الذي نشرته في حياتها " ظلالهم لا تتبعهم" والذي حوى مجموعة قصصية لطيفة. كما قام والدها بجمع محتوى مدونتها الشخصية "غرفة خلفية" والتي كانت تكتب فيها عن مشاعرها بكل شفافية وغموض في نفس الوقت، حتى أنتجت صفحات باهرات، بلغة أدبية ساحرة، وكأنها تراتيل الهديل في آخر السبيل، حين لا يسمعها أحد، إلا بعد الرحيل.

أتذكر حين كنت أكتب عنها ذات نهار في مدونتي تدوينة خاصة بها، فانتبه بصري لشيءٍ يقف خلف سور نافذتي، وإذا بها حمامة! كانت مصادفة عجيبة أن أحكي عن هديل وتأتي الحمامة لتحط عند رأسي لتذكرني بكلمة هديل في التعريف عن نفسها: "حكت الحمامة، فكنت أنا".

أجمل ما قيل عن هديل، كلمات كُتبت بعد يوم من رحيلها، بواسطة (ارتياب)، وقد تمت طباعة تلك الكلمات خلف غلاف كتابها "قارع باب الجنة":


هديل .. كيف هي لغة الجنة ؟ ( ويغشاني منك الحصيف من النور )

صباح خيرك ..
صباح مايقوله الكوثر .. وسندسيات الوعد الحق .. و " ماتشتهيه أنفسهم "
لك الله ياهديل .. ولنا .. ما ارتصف في الأحذية .. من تربة قبرك .. ( الطريق الممهود .. في الخطى ) ..
لك ِ الله ياهديل .. أردنا إيقاظك .. فأيقظتينا .. رأينا الله .. ودم النبي .. وسارية الجبل .. وبكينا ..
دمعنا .. بين سجدتين ..
بأنانية النجار يحفر اسمه على ماينحت .. أردنا استرجاعك ..
أردنا لك ِ المعتاد .. والمكرور .. والزمن الضيق ..
أردنا لك ِ ( مايثير الخجل ) .. أن تفضلينا على الله .. فويحنا .. ومطر الله عليك ..
أردنا لك ِ .. أن تنتهضي .. من غفوتك ( حليب النور .. في الزجاجة ) .. ونسينا أنك قارورة .. فسحت شفافيتها لتواريخ الله ..
أردنا لك .. أنا تعاني .. ألم الكعب العالي .. ومراقبة الوزن .. والعلوق في زحمة سير ..
أردنا لك ِ المفاضلة بين لونين .. والتعثر بطرف سجادة .. ومصافحة الروتين .. وقضمة واحدة .. من رغيف الصباح .. يفرضها التأخر عن مواقيت العمل ..
أردنا لك ِ .. مواعيد طبيب الأسنان .. وإلغاء القفل .. ومسح الرسائل القصيرة .. وتوقع تاريخ اليوم ..
أردنا لك ِ .. قراءة الروايات .. والقبوع .. بين سطرين .. نعتقدهما أطول بكثير مما يبدوان عليه ..
أردنا لك أن تكتفي عن الحبور بتخيله فقط ..

ولكنه الله .. ياطريقة الله النبيلة ..
الله .. الذي أراد لك ِ .. زكريا .. ومريم .. واكتمال القصة ..
الله .. الذي أراد لك ِ .. أثرا ً فينا .. منك ِ .. يبهت ُ بالمكابرة .. ويشعّ بالتسبيح ..
الله الذي أراد لك ِ .. ماهو لك ِ ..
أنا توقظينا .. بغفوتك ..
أن تعيدينا للحظة الخلق .. في مشهد أخذ المواثيق التي اعترفنا فيها بالله .. ثم تجاحدناها .. في كل مرة ٍ ننسى فيها البسملة .. والركوع لوقت ٍ أقصر .. من الوجوب ..
علمتينا ما علمك ِ الله .. ياهديل ..
أما مابين السحابتين .. رب السحابتين ..
وأن التي بغير عمد .. تحمل المدد ..
علمتينا الحزن على الركعة الفائتة .. وعظمة الفقراء إذ يقبلون منا ماهو لهم ..
علمتبني الحض ّ .. على طعام مسكين ..
علمتينا كيف يكون من الموت .. طريقة الله النبيلة .. في الإحياء ..
امض ِ ياضحى القناديل ..
رجعى .. إلى الله .. تعود إليه .. بعد المهمة .
*ارتياب

أحببت أن أعبّر عن هديل بتصميمي المتواضع والذي يجمع في حدوده صورتها برفقة الحمامة وآلة الكتابة وعطر الزهر والذكرى الحسنة التي ترتبط بها على لسان كل من عرفها. فقد تركت لنا لغة ذهبية بروح سماوية، كانت تكتب وتصعد في ذات الوقت، دون إعطائنا المهلة لنلوّح لها بالوداع، رحلت بسرعة لتخبرنا كم هي الدنيا قصيرة، وجديرة، بأن نحياها بالحرف والصوت المدوّي، والذي قد لا يُسمع في أوانه، لكنهّ حتما سوف يُسمع، ويُقرأ، ويُدرك، ما دام صادقاً، فهي من قال: "لن يقرأنا أحد بصدق، مالم نكتب بصدق"! رحمك الله يا حبيبة.









تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

ثمن التجربة