أمي.أبي ... و الصغير


نكون في بادئ الحكاية صغاراً بما يكفي لأن يضعاننا في أعينهما دائماً و أن يحملاننا إن أرهقنا المشي .. نكون صغاراً بما يكفي لأن نبكي .. أمامهما بشدة..بفعل غضبٍ أو حزن..و نكون صغاراً بما يكفي لأن نتكوّر في حضنيهما حال النعاس .. و لأن نعتلي عاتقيهما حال المرح...تدور الليالي و الأيام  بتسارع لا يمهلك فرصة لأن تتأمل كيف أنت من خلفك و كيف تكبر كل يوم.. كيف تكون ذاك الصغير في عينيهما رغم تتمدد ساقيك و اتساع عينيك.. تتناسل الأحداث.. و نكبر .. و تأخذنا تفاصيل حياتنا الهائلة إلى كثيرٍ من أمور..قد نحزن فيها بشدة .. فنجري سريعاً لنبلل الوسادة .. قد نبتهج فنملأ أوراقنا بتلك التفاصيل المبهجة... وقد نتيه وسط خياراتٍ مبعثرة نجهل أيّها نعزم...حينها قد نشعر بأنهما أصبحا بعيدين..فإن تلك التفاصيل لم تعد كشفافية الماء حين نسردها بعد عودتنا من اللعب لدى الجيران.. لم تعد كما الاعتراف بالخوف من الظلام و حاجتنا للنوم بقربهما...قد نظن بأن تفاصيلنا الكثيرة هذه تخصنا وحدنا و أننا قادرين على المضيّ..فقد غدونا كباراً..قد نفكّر بأنهما لا يعلمان ماذا تعني لنا تلك التفاصيل من حزن و خوف.. و أحلام كبيرة و خيبات كثيرة...قد ندرك بأننا نحن من يدرك.. و حسب..... لندرك بعدها أمراً آخر...بأنهما بداخلنا و أننا بداخلهما..

هما يرياننا بوضوح ...يشعران بما نشعر بوضوح ...لكن ذلك قد يخفى علينا..نحن لا نرى أنفسنا بأعينهما ..نحن لا ندرك كم هما قريبان منا .. يشعران بنا و إن لم تتفوه شفاهنا.. يرسلان لنا تضميداً و إن لم نشكو لهما.. و يقذفان بحبل نجاة عريض إن بدأنا في الغرق دون شعورٍ منا .. و يتجاذبان معنا كلمات عابرة ..تكون هي مفتاحاً لبابٍ نطرقه منذ مدة !! لكننا لا ندرك ذلك دائماً.. و لا ندرك أننا تشكلنا بين كفيهما شيئاً فشئاً..منذ اعتمادانا على كفيهما لنسير خطواتنا الأولى... و حتى زعمنا بأننا أهل لأن نعتمد علينا .....

أبي.. و كيف لنا أن ندرك من هو ذلك الأب.. حين يمهد سبيلك الوعر في الخفاء.. حين يضيء لك المصابيح... و حين يغرس لك لافتات العبور..لتسلكها أنت فيما بعد ..غير آبه بأي شيء..كيف لك أن تدرك ما هو الأب...حين يحبك بطريقته المختلفة..حين يحبك بصمته و نظرته الجامدة و كلماته الناصحة و عتبه.. حين يمزج شعوره الحنون تجاه طفله الصغير.. و إيمانه القوي بذلك الابن الكبير..

أمي..كيف لنا أن ندرك كم هي عظيمة تلك الأم...خارقة ..و عجيبة..لا يمكن لنا أن تصوّر ذلك.. و لا يمكن للسطور أن تحيط بمعنى تلك الأحرف الثلاث...تطعمنا كل ليلة.. و هي تتأملنا بهدوء.. و تقرأ في أعيننا تفاصيل النهار..دون أن تقترف ضجيجاً يخالجنا... تحيطنا بروحها وصلواتها قبل النوم و إن لم نطلّ عليها لنقول طابت ليلتك...تخجل إن لم تكون لنا كما يجب دون أن نفكر نحن لوهلة ان كنا لها كما يجب...و تزيح ستائر صمتنا عن كل شيء لتبوح هي بأن كونوا بخير ..و إن فضلنا الاحتفاظ بمشاعرنا لأنفسنا بدلاً من الثرثرة لها..الأم...قلبُ لا يعتب ليؤلمك..بل يعتب ليحبك..و يصمت لأنه يحبك.. و يتألم لأنه يحبك..فلا يشعر بشيء سوى أنك صغير..يجب أن تكون بخير..بعيداً أو قريباً..يجب ان تكون بخير و إن رحلت إلى حياتك وتفاصيلك عنها..يجب ان تكون بخير ..

أبي . أمي ويظلان الغيمة إن أجدبنا..و يظلان القرب إن بعدنا .. و يظلان الأمان إن ضللنا..و يظلان النهر إن ظمأنا.. ويظلان الكثير في كل شيء.. و أظل  الصغير...رغم كل شيء..

تعليقات

  1. "قد ندرك بأننا نحن من يدرك.. و حسب..... لندرك بعدها أمراً آخر...بأنهما بداخلنا و أننا بداخلهما.."

    اختصار المقال بروعته وجدته في هذه الحروف .. جميل جميل وجميل جدا بوح قلمك في هذا المقال .. لا حُرمت والداك والجميع

    ردحذف
  2. أمجآد الدعوة

    يبتسم جمال بوحي خجِلاً أمام جمال إطرائك و حضورك و حسن ذوقك..حفظك ربي و حفظ لكِ أمَاً جميلة و أباً مبارك,

    ردحذف
  3. أعجز عن وصف حرفك أختي :""

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

ثمن التجربة