طريق " الحب" ولك الاختيار..


رواية قديمة لا أدري لمََ التفت إليها مساء اليوم و التقطتها من بين الأرفف...بكاء تحت المطر للكاتبة قماشة العليان...ربما لأنها فريدة تلك الرواية فقد علقت في ذاكرتي مواقف منها رغم مرور فترة طويلة منذ قراءتي لها..وربما لتلك الرواية التي جسدتها قماشة..مواقف ربما معتادة لكنّها حملت مشاعر لا أظن أني ألتمسها في أي قصة أو رواية...فريدة تلك القصص التي تتجسد فيها المواقف وكأننا قد عشناها نبكي مع من بكوا فيها ونضحك مع من ضحكوا فيها..يخفق القلب تماماً معهم و تعبر أحداثهم على المخيلة منتصف الليل ... كما تعبر على مخيلتهم...

تلك الطبيبة النفسية..التي توُفّيَ زوجها حسن...تاركاً لها طفلها الذي يذكرها بكل ما مضى من ذكريات كحلم مشى سريعاً على أطراف أصابعه..لتمضي السنوات دافنة معها ذلك الألم و تلك الحرقة على فراق حسن لها...جرت الأقدار و أتى ذلك الحين...تلك الطبيبة تـُفاجأ بحسن يقف أمامها...و لكنه "خالد"...مريض قد أخذ وجهه قد امتلأ من شبهه حتى غدا و كأنه حسن تماماً...مريض يتعذب من شدة مرضه النفسي ولم يكن لها إلا أن تعالجه...و كأنها ترى حسن..و تتحدث إلى حسن..و تعيش مع حسن..كانت تتألم ولا تظهر ذلك أبداً...فهي طبيبة...وخالد مريض..لا ينقصه الألم  لتخبره بألمها...ولا ينقصه العناء لتبث إليه عناءها...ظلت صامته تعيش ألمها لوحدها...فقط تريد علاجه ولكن من يعالجها؟؟؟ كانت تتظاهر بالفرح و العزم أمام المريض لكي تكسبه كل تلك المشاعر الإيجابية ولكنها تحمل كل الحزن...وهذا ما حكاه غلاف الرواية بالضبط...

حسن تراه في الساعة الخامسة عصراً حين يحين موعد خالد لجلسات التهدئة و العلاج...حسن تراه حين يبكي خالد حرقة على مرضه و يحكي معاناته ...حسن تراه مغادراً حين ينصرف خالد من العيادة وكأنه لن يعود....تماماً كموته ورحيله..

في نهاية المطاف...كان هذا الموقف الأخير من الرواية و " الطبيبة تحكيه"...حين حملت تلك الطبيبة الجرح من قلب خالد...و عالجته...ونهض بسلام بعد ساعة مريرة من الألم قائلاً:
ــ الفضل لله ثم لك يا دكتورة.. ولكن ألن تعاودني تلك النوبات مرة أخرى؟
ابتسمتُ له معززة ثقته بنفسه وأنا أقول:
ــ اطمئن بإذن الله لن ترى شيئاً من ذلك.. لقد ولدت من جديد يا خالد.. وبإمكانك الآن مغادرتي مصحوباً بالسلامة.. إلى اللقاء يا خالد..
تردد برهة.. أحسست أنه يريد أن يقول شيئاً، ولكنه لا يستطيع.. قلت له مشجعة:
ــ خالد.. لا تتحرج من إلقاء أي سؤال.. فثق ثقة تامة أنك قد شفيت تماماً.. ومن حقك أن تسأل أي سؤال بشأن حالتك السابقة..
نظر إلي نظرة تفضح ما تضطرم به أعماقه.. أبيت أن أصدق ما وشت به عيناه.. أشحت بوجهي لأسمعه يقول لي بصوت متلجلج:
ــ ألن أراك مرة أخرى.. يا.. دكتورة..؟
قلت دون أن ألتفت إليه:
ــ لن تحتاج لي بإذن الله.. أنت الآن رجل كامل وأمامك المستقبل كله.. أتمنى لك حياة سعيدة..
مضى إلى الباب متثاقل الخطى.. ثم وقف فجأة..
تناهى إلى سمعي صوته المعهود:
ــ هل.. أقصد.. هل تسمحين لي بأن أزورك لاحقاً؟
رباه.. أن صوته قد أيقظ في نفسي كل شيء.. الحنين والحب والتعاسة.. سأقاوم حتى آخر رمق.. لن تهزمني لحظة ضعف.. إن شعوره طبيعي كمريض يتعلق بطبيبته.. ولكن ماذا عني أنا؟
الطبيبة المحترمة التي تفضل مصلحة مريضها على أي شيء في الدنيا.. حتى ولو كان في هذا تحطم لقلبها ومشاعرها..
قلت بخشونة تعمدتها وأنا أتظاهر بانشغالي بأوراقي:
ــ إن وقتي ضيق.. مع السلامة يا خالد..
صفعت أذني كلماته الأخيرة:
ــ مع السلامة.. الوداع يا دكتورة..
وانهرت على مكتبي في بكاء مرير.. لقد انتهى الحلم الوردي الذي عشت فيه أشهر طويلة من الفرح الممزوج بقلق وانتظار.. انتهى الفرح.. ووقف القلق.. وبقي الانتظار!!
الطبيبة...هنا أيقنت أنه لن يكون هناك حسن..أو حتى خالد...طريق الحب ممتد أمامها لكنها رفضت أن تسير فيه...حين يُفتح لها الباب فتغلقه بكل قوتها وهي متيقنة بأنها سوف تتألم...سوف تبكي كثيراً...رغم أنه خالد...ولم يكن حسن يوماً ما...لكنها لم ترد أن تمضي..رغم كل شيء ..رغم وقوف خالد لانتظارها... رغم عينيه الناطقتين... لم تمضي...رغم تردده لم تمضي...رغم شعوره لم تمضي...ربما لم ترد أن تعيش ألماً مرتين...و تعيش فقداً مرتين !! 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المرأة من منظور "زمّليني"

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

مواليد التسعينات | بين القناعات والتحديات