حكايا حيّ الزهور


الأشهر الماضية كانت أشهر انتقال لمنزل جديد، منزل يضاف إلى قائمة المنازل التي سكنت بها منذ النشأة وحتى هذه اللحظة، والتي دوّنت عن حكاية كل منزل منها في تدوينة سابقة بعنوان (منــازل). وذلك لأنني أؤمن أن الإنسان يتشكّل بفعل بيئته ومسكنه. فهذا المنزل الجديد ليس محور حديثي، بل حديثي سيكون عن المنزل الذي انتقلت منه، والذي عشت فيه أكثر من ست سنوات. فحين كنت أحزم أمتعتي، وأنتشل تفاصيلي من الزوايا والجدران، أخذت أتأمّل المكان، خاصّة بعد أن غدا خاليًا تمامًا، من كلّ شيء، عدا الشعور. فلقد شعرت بالامتنان لهذا المنزل بشكل مثير، ربما لأنّني واجهت فيه مراحل مفصليّة من عمري، والتي أعتبرها مراحل الوعي والنضج الركائزي والذي قد ترتكز أو تعتمد عليه توجّهاتي الأساسيّة في الحياة، مع الاعتبار بأهمّية كل مرحلة سابقة في حياتي، في أي فترة وفي أي مكان كانت. الجدير بالذكر هو أنني بعد أن لمست مشاعر تجاه تلك الحجرات الخالية، آثرت أن أمتن لهذا المنزل هُنا، ذلك المنزل اللطيف، الذي يحمل رقمًا مميّزًا في لائحة عريضة، وسطَ حيّ الزهور.

كنتُ أسكن في منزل يصطف بين أقرانه في مجمّع سكني ذو ثلاثة أحياء، أحدها حيّ باسم حيّ الزهور. وكم أزهرتُ في هذا المسكن، وكم ذبلت، كم من الحكايا التي حواها، والدروس التي أملاها. عشت خلال تلك السنوات ضياعًا وتيهًا، ووهنًا وضعف. عشت فيها انتفاضة ذاتيّة، ومعونة إلهيّة، كانت جدرانه شاهدة على بكائي، وكانت سجّداتي ووسادتي أكثر ما تمرغّت به. أذكر جيّدًا كيف كان هذا المنزل فارغًا من أحبتي حينًا، وممتلئًا في حين آخر، فقد لقّنني آلام الوحدة وآمال الاعتماد على النفس بعد الله، أبصرني كيف للمكان أن يتبدد ثم يتجدد، وكيف للحياة أن تستمر رغم كل شيء، وكيف ينفذ النور من النوافذ التي كانت مصدرًا للحلكة والانطفاء. كانت أروقة حيّ منزلنا الهادئة ملجئًا، وصداقاتي ولقاءاتي الجميلة مع الجيران وفتيات المجمّع السكني في النّادي أو منازلهنّ فُسحة. احتوتني أشجاره المتناثرة على أرصفة الممشى، وآنستني عصافيره وحماماته، وأبهجتني أغصان الريحان عند عتبة الباب، حين كنت أقتص منها خلسة وأتركها تنمو أمام مرآي في زجاجة أنيقة، واحتضنتني مراجيح حدائقه تحت المطر، لتجعلني كطفلة تلقي بهمومها مع كل قفزة هوائيّة نحو السماء.

مررت فيه باختبارات ووثبات، وعرفت أخيرًا خلال تلك السنوات قيمة كل ما مررت به، وإشارات كل ما عبرت به، أبصرت نوري ومصادر سروري. وأدركت فيه أعظم تجاربي الشخصيّة والاجتماعيّة والعلميّة والعمليّة. تغلّبت فيه على الانطفاء، صقلت العلاقات، وعيت أكثر بالظروف الأسريّة والشخصيّة، حصلت على شهادة الماجستير، جربت أول وظيفة، عايشت رحيل الأحبّة والفقد، وغيرها من التجارب الكبيرة. كما اهتديت فيه إلى صغائر الأمور التي تشي بعظائمها. فأنشأت من زواياه عالمًا لي، واحتوت جدرانه مكتبي الأوّل، وخريطة العالم التي نصبتها على جداريّتي الخشبيّة، وبدأت أسافر عبرها مع كل رواية أو سيرة أقرؤها، ملأت تفاصيلي بالشموع، وأرففي بالإضاءات المتدلّيّة، مارست بهجتي، أعمالي، فضفضاتي، وأكثر من ذلك، في ذلك العالم الصغير. فعلاً لم أكن أدرك أثر تلك الحجرة الصغيرة والمكتب المتواضع الذي كان لبشرى أرضًا وسماء، وربما كان هذا أكثر ما أمتن لهذا المنزل عليه، مساحتي الشخصيّة الملهمة، والتي أخذت تتسع شيئًا فشيئًا، مكانيًّا ومعنويًّا. خاصّةً مع فترة الحجر المنزلي وانغلاق العالم على بعضه، فكانت متنفّس لي.

أعلم بأن الكثير من الأوقات قد نقضيها خارج المنزل، كزيارات الأقارب، أو مقرّ الدراسة أو الوظائف، أو السفر، أو ارتياد المرافق المحبّبة، كالمقاهي أو المنتزهات، لكنني شخص يقدّر أوقات المنزل، قلّت أم كثرت. يقدّر الأماكن الدافئة في المسكن، والتفاصيل الجميلة، وأدق الأمور التي تصنع روتيني فيه. لذا أنا شديدة الامتنان لتلك التفاصيل. ويعز عليّ أن أقول وداعًا لحيّ الزهور، لحجرتي وسريري، لزاويتي ومقعدي، لنافذتي وحماماتي، لسطح المنزل وزيارات القمر، للمسجد والنّادي وللعب الصغار، للممشى والأشجار، للمقاعد الخشبيّة حول الأزهار، لنوافير الماء، وأحاديث الأصدقاء، وحسبي بأنّها خالدة مخلّدة في شعوري، ممزوجة بذاكرتي وشخصيّتي، وهذا أجمل امتنان ووفاء.

هنا تفاصيل متفرّقة لذكرياتي في منزلنا وحيّ الزهور، اضغط على الصورة لعرضها بحجمها الطبيعي..











تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني