المرأة من منظور "زمّليني"

 

ثمة شؤون نظنها يسيرة وصغيرة لكنها بعمقها تفتّق فينا معانٍ كبيرة. في إحدى لحظات التأمّل في كلمات لامستني عن المرأة، تأمّلت كم تعني المرأة لي قبل أن تعني لأي شخص آخر، ليس لكوني امرأة، بل لكوني شخص نظر إلى المرأة في تلك اللحظات من منظور إدراكي شديد العمق والحساسيّة.

فنحن كأشخاص سواء كنا ذكورًا أم إناثًا نشأنا بجِبِلّة (فطرة أو خِلقة) شعوريّة وإدراكيّة تربطنا بالمرأة، كجبلّة الشخص تجاه أمّه، أو أخته، أو زوجته أو ابنته. فننشأ وفق تلك الفطرة الشعوريّة ونتصرّف تجاه تلك المرأة بمختلف روابطنا بها كما تمليه علينا تلك المشاعر الفطرية. وغالبًا ما تكون أنماط تلك التصرّفات الفطرية أو العلاقات بين الأشخاص والمرأة بمختلف رابطتهم بها متقاربة ومتشابهة ومتعارف عليها. في حين أن من ينظرون إلى المرأة من منظور أعمق إدراكيًّا وشعوريًّا سيتصرّفون تجاهها بعلاقة أسمى، وستربطهم بالمرأة علاقة ذات مستوى أعلى من حيث الإيمان بمكانتها وقدراتها وقيمها.


إدراك عمق "المرأة":

لا أشير في هذا السياق إلى نظرة المرأة لذاتها وإدراكها واحترامها لمكانتها قبل الاعتبار بنظرة الآخرين، فهذا الجانب بالذات له محط اهتمام عظيم وهو أصل بناء علاقتها بمن حولها. لكن تأمّلي هنا تحديدًا هو في عمق إيمان الرجل بالمرأة، المرأة الناضجة. وأعني بالإيمان ذلك اليقين العميق النابع منه تجاهها لدرجة تغلغل هذا الإيمان من الرجل إلى المرأة نفسها ليخلق منها امرأة تؤمن بذاتها أكثر، تثق بها أكثر، تتقوّى بها أكثر، لتقوّي ذلك الرجل وتؤمن وتثق به في النهاية. هي ليست علاقة تبادليّة وتلقائيّة بقدر كونها تدريجيّة، تبدأ بإدراك الرجل لنفاسة معدن المرأة، وصونه له، لتواجه المرأة بذلك الصون حرارة الحياة، فتذيب معدنها في سبيل بث حنانها ودفئها، وتشكّل به سياج المَنَعَة، وتنيره بقناديل الوضوح والثقة، وتطوّقه بمفاتيح الإخلاص. حين يمتلك الرجل ذلك الإيمان وتلك النظرة تجاه المرأة فسيرى المرأة بعين ثالثة، ليدرك بأن وراء عاطفتها رغبة في التفهّم، ووراء أنوثتها رغبة في الأمان، ووراء عنفوانها رغبة في الثقة. وحين يراها بتلك العين، سيتصرّف تجاهها بذلك المستوى الأسمى قيمًا وأخلاقًا كما ذكرت آنفا.

إن إعطاء المرأة ذلك اليقين بمكانتها، أو لن أقول إعطاء (كونها تمتلك هذه المكانة بفطرتها) بل لنقل إن الاعتراف بتلك المكانة بصدق لا من دافع إجبار أو ضعف أو استفزاز هو ما يُحدث الفارق الحقيقي في العلاقة. والإشارات التي تدعو إلى ذلك من حولنا أكثر من أن تُحصى، أقربها ذلك السرد القرآني الذي ينسب البيوت للنساء في كثير من الآيات "بيوتهن" برغم عدم ملكيّتها للبيت على كل حال، وبرغم تعدد المواضع في هذا الجانب سواء موضع القصص أو حقوق النكاح أو الطلاق، إلا أن ضمير الملكية ثابتًا جليًّا في كل آية وفي كل أحوال المرأة. وأعتقد (كوني لم أبحر في التفاسير) أن الرسالة تكمن في الإشادة والتقدير والدعوة للاعتراف بمكانة ذلك الكائن اللطيف والقوي في آن. لأنها تثبت مكانة المرأة لدرجة أن البيت قائم عليها بمن فيه من أسرة وشؤون. وأن نسبة البيت لها قد تعني أن قدراتها تفوق التصوّر المحدود كونها مجرّد أنثى ضعيفة بالكاد ترعى شؤونها، بل هي المخلوق الذي أبدع الله فيه العاطفة والصرامة والقوة واللين وبعد النظر في التعامل الاجتماعي مع الطفل الصغير والرجل الكبير وغيرها.

فالمرأة أعمق مما يظن السطحيّون، والتي لا يدرك عمقها إلا الغوّاصون الماهرون. فمن يضعون في قرارتهم ذلك المعنى، سينعكس في احترامهم لها وعدم الاستخفاف بعاطفتها أو الإمساك بها من اليد التي تؤلمها باستلطافها ثم باستعطافها ثم بليّها. و الأجمل ممن يدركون عمق المرأة هم الذين يشيدون بذلك الإدراك ويعكسونه للمجتمع بالتعبير بالكلمة والمعنى الصادق وبث ذلك المبدأ والمفهوم للآخرين خاصة إن كان صادرًا من رجل، كون المرأة تنتصر للمرأة بديهيًّا، لكن حينما يفعلها الرجل مع ابنته أو زوجته  سيكون التأثير أكبر. كما فعل ذلك الرجل الذي لمس عمق امرأة، فعبّر عنه بطريقته.

 

بو كلثوم:

هنا أفصح عن لحظة التأثر التي ذكرتها في البدء، والتي استثارت الشعور وحرّكت دوافع التأمّل والتوقف حيال هذا المعنى. وهي اللحظات التي قضيتها أثناء استماعي لكلمات عمل "زمّلوا". العمل هو لفنّان سوري يُدعى "بو كلثوم". وهو فنّان يمارس فن الراب بلغة عربيّة وبلهجة شاميّة لإيصال رسائله. في الحقيقة لا أملك خلفية واضحة عن بو كلثوم أو عن توجّهه الفكري، لذلك أنوّه على أنني أشير لعمل "زمّلوا" بحد ذاته لا لشيء آخر وبغض النظر عن أي رسائل أو إشارات فكرية لم أدركها في هذا العمل كذلك. يقول بو كلثوم أنه مر في حياته بمواقف لمس فيها عمق امرأة ما وكان يشعر تجاهها بالامتنان، مما دعاه لإهدائها هذا العمل. حيث أنه كتب كلماته بشعور صادق تجاهها لا بدافع إنتاج عمل فني وحسب.

حين استمعت للعمل لأوّل مرّة أثار عجبي كوني لم أفهم بعض كلمات اللهجة الشاميّة، فضلًا عن نمط فن الراب الذي يجعل الجمل كالكلمات المتقطعة، لكنه لامس شعوري. وحين قمت بتصفّح التعليقات وجدت إحدى المعلّقات تدعى ماريا رباب قامت بشرح الكلمات بإبداع وتقريب المعنى بشكل أثر بي أيّما تأثير، حينها أعدت الاستماع فكان وقع الشعور أكبر. أظن بل أجزم بأن العمل الذي ينبع من الداخل وبصدق، ستكون سمته التأثير الإيجابي والحقيقي. أترككم مع "زمّلوا" مرفق بالكلمات لعدم إلزام الاستماع:

للاستماع (اضغط هنا)

زمّلوني زمّلوا و طفّي بردي يا بو حور

زمَّلوني و زمَّلوه و على صدري حمّلوه

يكفّي يوحي عكفّي روحي كفّنوني يالعيون

حنى طيني بكفّو ليني يعلم القاسي الحنو

سند أنثى بألف رجال تبني بضهرو سدود

ربينا عسود الدور تضوي سمانا نجوم

لما تطغى براسي نفسي و تبدا تنهشني الوحوش

غيرك عنهن ما بحوش

 فبخوفهن فيكي

***

ما علمونا ما علموا أنو بلاها بترجعوا

أنقص كيان مو بس ضلع اللي انسند عنها وقع

قومي يا طوفان الروى علمي العطاشى ترتوى

عمّروا فيه عمّروا جيل و أعطوا عمر للما روى

ما بخافوا الدم ولا بهابوا الموت

بس بخافوا اللي بيحب يطلعلو صوت

فبخوفهن فيكي

بيكبروا فيكي

بعلمهن فيكي..


تنظر ماريا رباب للكلمات باعتبارها موجهة من زوج إلى زوجته، لتسقط رسائل العمل في منبع الأمومة والتربية، لكن العمل في الحقيقة يحمل معانٍ أوسع من شرحها الجميل، لكنني أحببت طرحه كونها أبدعت في إبراز معاني إنسانيّة تستحق النقل: 


المقطع الاول:

زملوني زملوا طفي بردي يا بحور (على حد علمي هذه الجملة جاءت على لسان حامل وضعت مولودها، و المقصود بـ(زملوني) يعني قوموا بتغطيتي و زملوه تقصد مولودها، أما الشطر الثاني فلم افهمه جيدا)

زملوني و زملوه على صدري حملوه ( هنا تلك الام تأمرهم أن يضعوا مولودها فوق صدرها لكي يتعرف على والدته)

المقطع الثاني:

يكفّي يوحي عكفّي روحي كفّنوني يالعيون| حنى طيني بكفّو ليني يعلم القاسي الحنو

(هذا المقطع يصف الحبيبة و كيف تمثل السند العاطفي لشريكها )

سند أنثى بألف رجال تبني بظهره سدود | ربينا عسود الدور تضوي سمانا نجوم

( هنا يستعرض دور المرأة بشكل عام في بناء الأجيال و المجتمعات، إذا صلحت صلح المجتمع و إذا فسدت فسد المجتمع)

المقطع الثالث:

لما تطغى براسي نفسي و تبدا تنهشني الوحوش | غيرك عنهم ما بحوش

( يأتي على لسان الزوج هذا المقطع، بحيث عندما يكون في حالة نفسية مزرية و سيئة للغاية يبحث في زوجته عن ذاك الملاذ النفسي و تلك الراحة والطمأنينة )

فبخوفهن فيكي

(هنا الزوج يقصد زوجته بأنها صارمة في تربية أبنائه)

ما علمونا ما علموا أنو بلاها بترجعوا

(يقصد هنا المغني بأنه لم يتم تلقينهم في المدارس بأن غياب دور المرأة في المجتمع يسبب تخلف و رجعية هذا الأخير )

أنقص كيان مو بس ضلع إلي انسند عنها وقع

(يقصد المغني تلك الفئة التي تلقب المرأة بأنها فقط ضلع من جسد آدم عليه السلام و ليس لها دور أو وجود يذكر بل يؤكد على أنها كيان كامل و غيابها يسبب انهيار المجتمع )

قومي ياطوفان الروى علمي العطشى ترتوى | عمروا في عمروا جيل و اعطوا عمر للما روى

( هنا المغني يشجع المرأة على النهوض و بناء المجتمعات من خلال التربية على المبادئ و القيم و النهل من وادي الحب و العطف خاصتها)

ما بيخافو الدم لا بيهابو الموت بس بيخافوا اللي بحب يطلعوا صوت

( هنا يقصد المغني تلك الجماعات التي تسعى الى قمع صوت المرأة كونها مربية للأجيال التي يخافون يوما ان تقوم عليهم لتطالب بحقوقها.

المقطع الرابع:

فبخوفهن فيكي،يكبروا فيكي،بعلمهن فيكي

(على لسان الزوج مرة أخرى،حيث يحث زوجته على أن تكون صارمة و حنونة في نفس الوقت أثناء تربيتها لأبناءها حتى تكون نشأتهم مبنية على قيم الحب والإحترام لوالدتهم بصفة خاصة و للنساء بصفة عامة)


"زمّليني":

لامستني الكلمات كثيرًا، وكون الدافع الأول لكتابتي الأدبية هو استلهام الشعور ووصفه، دفعني الشعور النابع من كلمات العمل لصياغته بسردي الأدبي وبالفصحى، بعيدًا عن الإسقاط الحرفي لكل جملة. لكن لتقريب المعنى بأسلوب شخصي كما تلقيته من وحي تأثري.

{زمّليني، زمّليني، ودثّري بحكمتكِ أعاصير اندفاعي، يا حور عيني، وهذّبي روحي واغمريني، بجفون عينيكِ كفّنيني. اسقي بلينكِ طيني، وعلّمي القاسيَ فيني الحنانَ..علّميني. وكوني ليَ السندَ، عن ألف جنديٍّ، وقفي خلف ظهري، واسنديني. فأسقف داريَ السوداء، تغدو بنوركِ أنجمًا وقناديلَ تهديني. ولستُ رهينةً للضعف لكنّي.. أرى فيكي أماني وزمامي حين تُنهَشُ روحي من وحوشي، فتذودينَ عنّي هواجسَ تعتريني. فأخوّف خوفي بكِ، وأخوّف من يدّعي أنّكِ سِلْمٌ، وأنتِ كلّ سلاحي .. وخوذتي وجبيني.

فكلّ عصابةٍ ضدّ طهركِ جوعى، وكلّ مسيرةٍ دون ركبكِ رجعى، والحقّ يثبتُ حجّتي ويقيني. فنحن بكِ أجزاءٌ مكمّلةٌ..والجزءُ ليس بنقصانٍ بكِ، فكيانكِ من أضلعي لتكمّلني. لا تحزني.. ولإن حزنتي فاجعلي، مدرار دمعكِ قوّةً، طوفانَ يروي مدمعي. ثم انهضي وتجلّدي، جيلًا فجيلًا تُنجبي، فتعمّري، فتحرّرّي. لا تُهزمي، لا تصمتي، فالصوتُ منكِ مُجلجلٌ ومدوّيٌ، يخشى الضعاف دويّه، كالمدفعِ. فبكِ أخوّف من خوّفوكِ، وبكِ يكبر مَن صغّروكِ، وبكِ أعلّمُ من جهلوكِ.. صدّقيني..واصدقني دفئكِ..وزمّليني.. زمّليني.}

لا أعلم هل وُفّقت في سرد المعنى العميق الذي خالجني، لكنني أعتقد أننا يمكننا الآن النظر إلى المرأة من منظور المعاني في كلمات "زمّلوا" أو كلماتي في "زمّليني". فكيف تبدو المرأة حينها؟ أترها ستبدو المرأة التي تخشى أن يخشاها أقرب الناس إليها؟ لأنّه يظنّ بأنّها تنازعه القوّة أو الرغبة في الانتصار؟ أم أنها تبدو تلك المرأة التي تخطو خطوة نهضة، فتنظر إلى ذلك الذي يؤمن بها، فتُتبعها بعشر، فينتصر لنفسه بها، وتنتصر به لنفسها!


تعليقات

  1. أعدت قراءة التدوينة مرتين حتى تصلني المعاني والمشاعر المؤثرة! أعجبتني واستمتعت بالقراءة. شكرًا بشرى.

    ردحذف
    الردود
    1. شكرًا لكلماتك وذائقتك أسماء! سعدت بزيارتك 3>

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

حياة الركض لا تشبهني