منازل
من
البديهي أن ينزل المرء ويقل في مأوى أو مسكن واحد على الأقل خلال حياته، لكن الأمر
يختلف من وجهتي الشخصية إذا نزل الشخص بأكثر من منزل خلال حياته و تنقل بين مساكن
متنوعة. أرى أن التنقل بين المنازل من شأنه أن يترك انطباعاً كبيراً على شخصية
المرء وانفتاحه بل وطريقة تفكيره تجاه نفسه و الآخرين. فالمنازل ليس المقصود بها المأوى
و حسب، بل هي البيئة التي يعيش فيها المرء في كل يوم محتكًّا بتفاصيلها،كالحيّ و
الجيران و نمط العيش داخل المنزل و خارجه.
أعتقد بأنني الشخص المعنيّ هنا حين أتحدث عن
تنوع المساكن خلال فترات الحياة، ففي سنوات طفولتي الأولى كنت أقطن في بيتٍ شعبيٍّ
فسيح، كان له الأثر الأكبر في تشكيل نمط طفولتي و إدراكي، فقد كنت أستيقظ من
الصباح الباكر برفقة قريباتي اللواتي كن يقطنّ في ذات المنزل و نهرول في الخفاء
لتشغيل التلفاز منتظرين افتتاح قناة "سبيستون". كنا نذهب للمدرسة مشياً
على الأقدام بفضل قربها من المنزل، وكان جدي رحمه الله يرافقني أحياناً، خاصة في
يوم استلام شهادات النجاح. وكثيراً ما كنا نعتلي الأسطح مرخين العنان لطاقاتنا
الكبيرة لكي تتدفق مرحاً و سعادة. كانت البساطة عنواناً لتلك الحقبة الزمنية، فقد تركت
في نفوسنا معنى الترابط الأسريّ في العيش سوياً تحت سقف واحد، و الأكل سوياً، و
الضحك و البكاء و اللعب و الشغب سوياً. لكن تلك المرحلة لم تدم طويلاً، فقد تبعها
انتقال جذريّ للعيش خارج البلاد و السكن في بيوت أشبه بالأكواخ أو المنازل الجميلة
التي كنت أشاهدها في "الحديقة السرية" و "لحن الحياة". كان
الأمر ممتعاً بالنسبة لي حين تجسد الخيال المرتسم في رأسي بفعل حكايات التلفاز واقعاً،
فكانت الأزهار و المساحات الخضراء تحيط بالمنزل من كل جانب، و كانت الفصول الأربعة
تبدو جليّة و واضحة من خلال أغصان الشجرة المطلة على حجرتي. كان صوت العصافير و
الحمامات يوقظني صباحاً، و كنت طفلة تدمن الذهاب للحديقة المجاورة بدرجاتي المتواضعة،
تاركة للطبيعة و نسيمها حرّية مداعبة ضحكتي و خصلات شعري. كانت الحياة مختلفة
بالرغم من الغربة أو العزلة عن الأقارب و الأهل. وقد كان لتلك الحقبة فضلاً كبيراً
في جعل الإنسان منفتحاً لمختلف الثقافات و أنماط العيش و متقبلاً لها، كتقبله للهدوء
الذي يسود الشوارع من الثامنة مساءاً.
كان لتلك
المرحلة نهاية كسابقتها، فبعد العودة للبلاد، بدا الوضع مختلفاً بالنسبة لي كذلك،
فمنزلنا هذه المرة يقع وسط حيّ جديد ليجمع بين هدوء مرحلة العزلة السابقة و بين شعور
الانتماء لبلدتي الذي استعدته بعد رحيلنا عن بيت جدي الأول. جعلني ذلك الشعور أكثر
إيماناً بجمال الاختلاف، و بأنه يمكن أن يجعل منا أشخاصاّ ذوي خبرة أكبر، و تجربة أعمق، كما جعلني ذلك الشعور بالفوارق بين المرحلتين أكثر انفتاحاً لجمال الحياة، فمن سنحت له الفرصة أن يرى جمال الحياة من أكثر من زاوية أو
مسكن أو بيئة، يمكنه أن يخلق في كل أمر يصادفه شيئاً جميلاً. لأنه عاصر جمال
البساطة و جمال الطبيعةو جمال الأسفار و جمال الاستقرار. و في آخر المطاف، تمكنا
من الانتقال للعيش في بيئة مختلفة أشبه بمدينة سكنية تضم منازلاً متشابهة يفصل
بينها ممرات للمشاة و حدائق متواضعة. كان لتلك المساكن المنطوية على بعضها الأثر الكبير في أن تجعلك
في عزلة عن الأحياء وضجيجها، مكتفياً بصوت آلات تنسيق الزرع في كل صباح بفعل موظفي
المدينة السكنية، و بدا ذلك الصوت مرتبطاً بنفسه حين كان يصدر من آلة والدي الزراعية
عندما كان يقوم بتنسيق حديقة المنزل الخلفية أثناء معيشتنا خارج البلاد. أدركت
مؤخراً أن الحاضر مرتبط بالماضي بفعل ذلك التنقل المتكرر، و أدركت كذلك بأنني أكثر
تقبلاً للانتقال في مراحل الحياة القادمة، و أكثر يقيناً بأن الاستقرار الحقيقيّ
يكمن في داخل النفس، و بأن الجمال يكمن في كل مرحلة و في كل بقعة على وجه الأرض
مهما كانت متواضعة أو تعج بالرفاهية.
تعليقات
إرسال تعليق