فضائل الأمور البسيطة



في معرض الكتاب الماضي أثناء تجولي بين الدور قمت بالتوجه إلى دار تشكيل وتقليب نظري بين الكتب، لفتني كتاب بعنوان فضائل الأمور البسيطة وبمجرد أن لاحظني مسؤول المبيعات حمل الكتاب في يده وبدأ بتعريفه لي وبمحتواه الذي أثار فضولي كونه يعزز فكرة تبسيط حياتنا المعقدة ويلفت انتباهنا إلى استشعار الأمور البسيطة وفضائلها، فاقتنيته وقرأته. التدوينة ليست مراجعة للكتاب، بل مراجعة للحياة من منظور سطوره.

تستعرض مؤلفة الكتاب مارينا زويلين الحياة كخلاصة لتجاربها المجتمعية والفلسفية وتطرحها بتساؤل: لماذا يرتاب البعض من good-enough life (الحياة الجيدة بالقدر الكافي) ؟ أو الحياة المعتدلة أو القائمة على الوسطية، هل لأنهم يعتقدون بأنها عبارة عن الرضا بالقليل والقناعة بأبسط الحقوق؟ وقد نفت ذلك مباشرة وأصابت في التعريف الصحيح لتلك الحياة الطيبة:

"الحياة الجيدة بالقدر الكافي لا تتعلق بخفض سقف طموحاتك أو بتقديمك مجموعة من التنازلات إلى حد يحبطك، بل تتعلق باختلاف نظرتك إلى الآخرين، وإعطائك المزيد من الاهتمام لما يكمن خلف مجموعة الإنجازات اللافتة."

وأظنها ترمي إلى أن الاكتفاء في هذه الحياة المعتدلة لا يقوم على الشيء اللافت بل ما وراءه، وذلك في كل شأن، سواء كان اللافت شخص أو إنجازات أو اعتماد مالي أو لقب أو طموح، لأن ما يكمن وراء ذلك هو بالضبط ما نتجاهل الاعتراف به. عملية الفصل بين التصوّر عن الشيء أو الشخص وعما وراءه يكشف لنا حقيقة شعورنا تجاهه وليس حكمنا عليه.

 على سبيل المثال كيف يمكننا الفصل بين الشخص الآخر كــتسمية و كإنــسان! عملية الفصل هذه ستمكننا من رؤية ما وراء التسمية من معاني ورؤى تمكننا من استبصار شيء أعمق وإدراك طبيعة إنسانية في هذا الشخص وبالتالي فهمه، وهذا بدوره سوف ينعكس على التعايش والتعاطي الحياتي معه.سنكتشف أثناء عملية الفصل هذه تناقض عجيب بين المسمى وما وراءه، وبما أن المثال يتكلم عن الأشخاص، اختارت المؤلفة شخص مصاب باضطراب طيف التوحد يدعى غراندين، وفصلت بين اضطرابه وتصنيفه المجتمعي والحكم عليه وبين ما يخفيه وراء تصرفاته وإنجازاته. فكيف استطاع هذا الشخص ذاته الذي يخيفه الاتصال الحميم مع الآخرين، أن يخترع جهازًا آليًّا للمعانقة، وهي آلة من شأنها أن توفر للحيوانات شعورًا بالراحة وهي في طريقها إلى المسلخ!


التسميات والتصنيفات الظاهرة هي أول ما يلفتنا ويقودنا إلى الإقبال أو الإقصاء حسب التصورات والأحكام، لكنها ليست كل شيء، وبين تلك التصنيفات والتصورات وبين المعاني غير المألوفة والحقيقة فجوة ملحوظة، تملؤها الوسطية والاعتدال والتأني في الحكم، ونتيجتها عيش حياة عبارة عن سلسلة من الاستكشاف والانكشاف والتعمق والنمو والسمو، بدلا عن الصعود والتحقيق المتتابع وربما العشوائي للإنجازات والعلاقات والاستهلاك دون أدنى نظر في ميزان الجودة الحياتية الفعليّة (الجيد والكافي بغض النظر عن اللافت أو اللازم أو السائد).

السعي لعيش الحياة المعتدلة يتطلب وقتًا ونيّة، خاصة في استيعاب أنها ليست محبطة وليست مثالية، بل هي كما وصفتها مارينا: تنطوي على نصيبها من خيبات الأمل. فالغرق في دوامة الحياة يلهينا عن الحياة، حتى تجيئ لحظة اليقظة، كهذه النصوص من الكتاب والتي جمعتها في الاقتباس التالي الذي لامسني جدّا سعيًا لحياة ذات امتلاء حقيقي لا نفخ ظاهري بجوف خالي أو خيالي:


"لقد جاء نداء الاستيقاظ الخاص بي، أردت التأكد من قيمة الأشياء والأشخاص، كيف يمكن لشابة في مقتبل العمر، تفتقد للأمان النفسي بشأن مكانتها في العالم، أن تفهم بأن الحياة الجيدة لا ينبغي أن تُقاس بإنجازات الآخرين، بل بقدرة المرء على مراقبة ذاته، وامتلاكه مؤشرًّا أخلاقيًّا داخليًّا يُنبه بأن ما يعيشه هو حياةٌ جيدةٌ بالقدر الكافي. كيف يمكن لتلك الشابة أن ترغب في استخدام كلمات من قبيل الاستقرار والسكون وقبول الوضع الراهن!

الإنسان الذي يحقق الاعتدال الذهبيّ، يحافظ على مكانةٍ آمنة، فهو ينجو بنفسه من تعاسة بيت متهالك، ولأنه مُعتدل، فهو ينجو كذلك من الاستياء الذي يسببه قصر.

في كثير من الأحيان، تهزُّ الرياح أشجار الصنوبر الباسقة، ويكون الانهيار أكثر تدميرًا عندما تهوي الأبراج الشامخة، ولا يصيب البرق سوى قمم الجبال، وعند الشدائد، يأمل الذهن المستعد جيدًا في تبدل الأحوال، ويحترس أثناء الرخاء، وسيكون من الحكمة أيضًا أن تقصّر شراعك في مواجهة النسائم العليلة والملائمة. إن الأمر يتطلب شجاعة وبصيرة حقيقيتين كي يقاوم المرء كبرياءه. إن الرغبة في القليل تعني خسارة أقل."


وبالتأمل في حياتي شخصيًّا أجد ذلك يتفق فعلًا مع ما أعيشه، فأجد مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: خير الأمور أوسطها. وخيرية الأمور تكمن فعلًا في حالتها المعتدلة والوسطية وفي مكنونها لا كينونيتها أو قالب ظهورها. أجد فعلًا أن أصدق المعاني التي أتلقاها وأعمقها تكمن في الأشياء التي لا تسعى لأن تكون معلنة وظاهرة بل تتدفق بطبيعتها فقط، فالأشياء المعلنة أمام الآخرين غالبًا لا تتوافق مع حيواتنا الداخلية ولا تسرد القصة كاملة كما تقول مارينا! أما الأشياء الكامنة خلف المُعلَن تجعلنا شخصيات تتمكن من عيش الحياة من دون أن تنتابنا حاجة (ملحة) لأن يتم رؤيتنا بأدوار معينة أو تصنيفات محددة.وبإسقاط ذلك علينا شخصيًّا، أصدق الأشياء التي تصدر منا هي الأشياء المنفلته دون قصد لا الملفته بقصد، كالأشياء العفوية والمضحكة أو الخيارات التي تولد في لحظة سكون أو أمان أو تجلّي قبل أي فكرة عن الآخرين وماذا قد يحكمون علينا أو كيف يروننا.ولو تتبعناها وعشنا بها لعرفنا حقًّا أين تكون الحياة المعتدلة والكافية بالنسبة لنا.

 وأجمل ما يكون بالنسبة لي أن تُشارَك الأشياء الكامنة (النابعة من حقيقة داخلية)  بطريقة غير معلنة أو صارخة وتحت الأضواء، بل في قالب هادئ وحقيقي يشبه مكنونها وجوهرها كي لا تفسد (مراعاة الظهور) لذتها أو جمال معناها. وأشارك هنا مقطع للكاتب عماد رشاد، أراه أنموذج للقالب البسيط والمحتوى العميق والذي يطرح ذات الموضوع: وسطية النفس وكيف تكون تلك الوسطية في خضم التباهي أو الجلد، أحببت طريقته في الحديث واللكنة المصرية التي تعجبني جدًّا وتبسط كل معقد وتضفي العفوية حتى في الطرح العلمي أو الثقافي. أشيد بهذا حقًّا، أن يختار عماد رشاد مكتبته وجلسته التي يعتاد عليها وطريقته في محادثة الكاميرا كمشاهد يجلس معه على الطاولة ليناقش موضوع بشري بحت قد يمسنا جميعًا:



قناة أخرى أشيد بها وأرى بأن صاحبها طبق هذا المبدأ كذلك وهي قناة مصطفى: Mostafa Madkour مصري أيضًا ^^ لكنه يجلس على الكنبة وليس المكتب، العامل المشترك بين القناتين هو أنهم لا يفتعلون الطرح ولا القالب وينشرون ما هو قيد الإلهام واللحظة والاستنارة، وكثيرًا ما يبقي مصطفى المقطع دون مونتاج ولو بسيط كاقتطاع لحظات إزعاج الشارع من النافذة أو صوت رشفته لمشروبه، يعجبني ذلك جدًّا، بالإضافة إلى العفوية والمصداقية بالتأكيد، هنا أحد مقاطعه التي ضحكت أثناءها كثيرًا:



الحياة الجيدة بما يكفي لها مقياس دقيق، وهو شعورك بأن الخارج بكل معاييره لا يزعزع دوافعك في الحياة، دوافعك للعلاقات والإنجازات والتصورات إلخ، لا يفسد عليك فطرتك في عيش ما هو متاح الآن ويشبهك جدًّا دون عرقلة لتدفقه، تقبله كما هو وتتمتع ببلوغه،ترضى بالشيء لأنه فعلّا يكفي ويرضيك لا لأنه حاز على شرف معيار خارجي لا يعنيك، وهذا المقياس الشعوري يتضح شيئ فشيء بالسعي لنيله لا بتجاهله، ويتجلى كثيرًا في الأمور البسيطة!


تعليقات

  1. التدوينة جاءت في وقتها.. شكرًا لك بصدق، ونتطلع للمزيد ✨

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المرأة من منظور "زمّليني"

عودة – إتقان العيش في المنتصف

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس