هل أنت قالَب؟ - حوار ذاتي

 


في لقاء استثنائي مع الذات اكتشفت كم أنا بعيدة عني، أو أسأت فهمي وقد كنت أعتقد بأنني أعيش حقيقتي وأحيا بطريقة تعكس روحي. كان ذلك اللقاء غريبًا، فقد كنت مصابة بالرشح بطبيعة الحال في موسم شديد البرودة كهذا، لكنه الرشح المستحدث والذي يلزمك الفراش أو الأريكة إن كنت في حال أفضل، ويسلب منك أحقيتك في استنشاق عطورك المحببة أو تذوق أطباقك المحببة كذلك، كان يوم مرهق بدأ التعب يتسلل إلىّ فيه دون إدراك مني وكنت في خضم إنجاز مشاوير هامّة تفرغت لها خصيصًا في نهاية الأسبوع.

بعد إتمامي لمشاويري وقضاء أمسية مليئة بالفعاليات وتحقيق الأمنيات، تعجبت من أنني لم أشعر بشيء، لم أكن أشعر بالرضا ولا بالمتعة، لم أفهم لماذا، فقد كنت أقاوم كل هذا التعب وزحام الشوارع لأجل ذلك، لأجل تلك الرغبات، ولطالما لم يمنعني التعب من الشعور بذلك، ولم يحل بيني وبين متعتي الروحية، ما الأمر، أين هي روحي؟

أدرك تمامًا أن المزاج والراحة والمرض له دور في عدم انسجامنا مع ما نقوم به أو ما حصلنا عليه، وأن الامر ليس بهذا التعقيد، لكنني حقًا أميّز تمامًا بين تعكر المزاج والحالة الصحية وبين التيه المحيّر، وهنا كنت أعلم في قرارة نفسي بأنني في الحالة الثانية، وذلك لتكرار الأمر خلال الفترة الماضية وفي مختلف المواقف.

جلستُ على الأريكة بهدوء وبخيبة ممزوجة بالتفهم، لذتُ بالصمت، الصمت فقط، صمت عن الكلام وحتى التفكير أو التحليل، أغمضتُ عينيّ، لم أفتحهما البتة، مر وقت، حتى شعرتُ بأنني صرتُ في داخلي، واستقريتُ في موضع أتمكن فيه من الشعور بقربي، مددتُ يدي ببطء لألمس أطراف أصابعي، أقسم بأنني شعرت وكأنها المرة الأولى التي ألمسني بهذا التحسس لتفاصيل كفي، وهنا حقًا اجتاحني شعور غريب بالحنين، بالعتاب، بالشوق، فانسابت دموعي، ثم بكيت، وبكيت....

كعادتي أفضل أن أترجم هذا البكاء لكلمات، فالتقطت القلم والورقة وكتبت محادثة بيني وبيني فتفاجأت من عمق أسئلتي وانسيابية استجاباتي وصدق إجاباتي، كنتُ صريحة معي لدرجة أنني اعترفت لها بكل شيء عنّي فشعرتْ بالأمان وباحت لي فعرفتُ لماذا كنتُ أهرب مني....

تبيّن لي أنني كنتُ أعيش قالب رسمته لنفسي ولستُ نفسي، قالب للحياة التي أريدها، قالب للأماكن التي أزورها، قالب للكتب التي أقرؤها، قالب للذوقيات الثقافية والمجتمعية، قالب لرزنامة المواعيد وتنظيم الجدول اليومي وقائمة الطعام ونمط العلاقات وصنف الحوارات والكلمات، قالب لا يقبل التقليب، وبمجرد حدوث تغيير ينقلب كل شيء!

 كنت أظن بأنني مرنة، لكن في الحقيقة لم أكن كذلك، كنت مجبرة على التغيير في حال اضطررت إليه، لكن لم أكن أسمح لي بأن أجعله خيار، أن أختار أن أكون مرنة بملء شعوري وأن أقبل التغيير كطريقة للتعبير، لم أكن أسمح بأن أتجاوز حدود أي شيء في حياتي، حتى العشوائية لها حدود، فذلك القالب استحال إلى صرامة تطغى على حقيقة الشعور، فكيف لي أن أطالب نفسي بأن تكون مجرد رد فعل لكل فعل بغض النظر عن شعورها آنذاك وما ترغب به حقًّا لا ما يلزمها (من وجهة نظري للقالب) أن تشعر به أو ترغب به، فهذا ما باحت به بشرى لي في حوارنا معًا، هنا جزء من البوح وأحتفظ بباقيه لخصوصيته، والذي انساب مني بشكل ارتجالي بحت ساعة بكائي:


أنا لستُ قالبًا ماديًّا فحسب، ولستُ روحًا فحسب، أنا هما معًا، أنا هما سويًّا، أنا هما اتحادًا دنيويًّا وأخرويًّا، أنا لستُ قالب، لستُ إنجاز، لستُ راتبًا ولا رُتبة! ولا مستلزمات شِقّة، أو آلة للمشقّة، أنا أصدق.. وأعمق.. كنتُ أغرق.. وكنتُ أستنجد..

في كل مرة يطول فيها الابتعاد تتسع الفجوة، ويطول استعادي، وإسعادي، في كل مرة تثقين بالخارج أكثر مني يزداد الشك تجاهي، في كل مرة تغدقين العطاء والتفكير والقلق بشأنهم تجف ينابيع اطمئناني وأماني، في كل مرة لا تكملين الصعود للسماء يضعف إمدادي، في كل مرة.. صدقيني..

لا تتوقعين مني أن أحتفظ بمخزون عطائك القديم لي طويلًا، كلا، فأنا أبلى، وأنا أحتاج أكثر، لأنني أغلى...

سوف تتعذرين لي بالوقت القصير والعمل الكثير، لكنكِ وإن تفرغتِ هربتِ مني لكبر الفجوة، تهربين بوسائل غير مبررة ومكررة، بتُّ أفهمها، وأظنكِ تفهمينها كذلك جيّدًا! لكن هكذا أنتِ، تريدين مَن يعطيك الأٌنس بأقرب فرصة وأقل جهد وأسرع اتصال، وهنا بالتحديد يحدث الانفصال..

أنتِ في الضجيج وأنا هادئة، أنتِ في الخارج وأنا في الداخل، أنتِ وسط الجموع، وأنا دموع..

وتظلين تبحثين عني في المشاهد والكتب والنوافذ والناس وملامحهم وصفاتهم وأسمائهم ومعانيهم... وأنا داخلـــك.. أعجّ بالحياة..الحياة التي تملؤك!

الخارج نافذة للمعيشة وأنا عالم للعيش، الخارج وسيلة وأنا الغاية، الخارج كون وأنا كينونة، لا تهربي مني، فداخلي حب وإلهام وصدق وخوف وحماسة وشجاعة وضعف وحقيقة ونور وسلام وفكرة وحرف ووحيٌ وكلام وجمالٌ وتربص وامتنان، بداخلي كل المعاني التي تبحثين عنها..

 فقط أشركيني في ذلك القالب! لكي نبقى سويًّا، ويشع منا عالمًا ذاتيًّا حقيقيًّا مؤنسًا نحن سويًّا..


لم يسعني بعد هذا السيل المفاجئ من البوح إلا أن أرد بوعود صادقة لها قلت فيها:


أعدكِ بأن لا أترككِ وأًطيل بُعدي عنكِ،

أعدكِ بأن أصمت لأسمعكِ،

أعدكِ بأن آخذكِ معي قبل أي مشوار،

أعدكِ بأن أجعلكِ سعيدة ذات نشوة حقيقيّة روحيّة ونيّرة،

أعدكِ بأن أحيطكِ بأجواءٍ تنعش إلهامكِ واهتمامكِ،

أعدكِ بأن أكون دائمًا أمامكِ،

أعدكِ بأن لا أجعلكِ تتحملين ثقل الأيّام..

بل أحملها في كفي، وأمدها لله الرحمن،

أعدكِ بأن (أصدّقكِ) ولا أخذلكِ..

لا أستبطؤكِ .. ولا أستعجلك..

أعدكِ..أعدكِ..أعدكِ.. يا بشرتــي،


هذا الحوار كان قبل ما يقارب أسبوعين، لم أتوقع أن يكون أثره و وقعه عليّ بهذه الدرجة حتى اليوم، فكل ما تلاه كانت أيام خالية من القولبة، أيام مفتوحة للمرونة وللدهشة، ومليئة بلحظات أعيشها بملء شعوري، لحظات خفيفة وصادقة، خيارات من صوت جوّاني واضح، قرارات مرنة وتشبهني، انحسار الخوف والتردد بشكل غريب، والعودة في نهاية اليوم بنفس راضية تمامًا. هنا بالتحديد علمت بأن الحياة لم تُخلق لكي نعيش فيها، بل لنعيشها، نحن، أنا، أنت، وكل أحد، هو من يعيش، بذاته الداخلية التي يعكسها على الخارج وليس العكس، لا شيء يمكنه حجب صدق الذات إلا صاحبها، القسوة والجلد أحد أهم المسببات لعملية الحجب هذه، والمرونة والتأمل والتفهم أولى خطوات العيش برويّة وارتواء.

أختم بهذا المقطع الذي أحتفظ به منذ أكثر من سنة تقريبًا، تذكرته مباشرة وأعتبره من حسن الحظ مشهدًا مناسبًا لحالة ما قبل اللقاء بالذات ومن ثم طريقة التعرف على ملامحها وتحسسها وصولًا إلى التجانس والانسجام وحتى السلام.. 



تعليقات

  1. حوار صادق وعميق أبكاني .. كلنا بحاجة لهذه الصله كي نصل .. بحاجه لأن ننصت لنا كي نُسمَع .. بحاجة لأن نعود لنا بعمق كي ننطلق ونحلق عالياً ..

    شكراً لك بشرى وكلماتك الدافئة الصادقة 3>

    ردحذف
  2. "أعدكِ بأن آخذكِ معي قبل أي مشوار" يا إلهي على حجم العمق ، عباة ختمت حالنا، يبدو لي ان الكل يخرج بدون صبحة ذاته، يرتدي قناع الاخرين ويترك ذاته بعيداً .. قراءة واحدة لهذا المنشور لاتكفي ، حجم الجمال والروعة في الوصف اكبر بكثير من قراءة يتيمة، شكراً بشرى ابدعتي كعادتك

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المرأة من منظور "زمّليني"

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

مواليد التسعينات | بين القناعات والتحديات