العِـقد الثالث ~

 


عَقدي الماضي كان ثمينًا، ولم أجد ما أعبّر به تجاهه أثناء توديعه إلا بوصفه عِقدًا ثمينًا، نسجت فيه لآلئ نفيسة، كل لؤلؤة كانت نتاج رحلة غوص في أعماقي وأعماق الحياة وأسرارها، منها ما تعلّمت خلالها الغوص والإبحار بانسيابيّة، ومنها ما واجهت فيه الغرق، ومنها ما أدركني الاختناق، وحالفتني النجاة والعناية الإلهيّة. لم أشعر بطمأنينة حين شرعت بتوديع هذا العَقد من عمري وسنوات العشرين، واطمأننت لما هو أجمل من الوداع، وهو البقاء رغم المفارقة الزمانيّة، فدروس العشرين باقية فيّ، لأنها الأعظم والأبقى في نظري حتى الآن، لذا طوّقت جيد عمري بعِقد بهيّ، تصطفّ فيه كل لؤلؤة بقرب مثيلتها والتي حزت على كل واحدة منها بكفّي بعد رحلة شاقّة، أو ماتعة، أو مجهولة البوادر والعواقب، مغمورة بالألطاف والرحمات مهما بدر منّي من جهل وتقصير.

أحببت جدًّا فكرة أن أقتني أشياءَ توثّق هذا المعنى وأهديها لنفسي، لتذكرني به، تشعرني بأهمّية ما حزته خلال مرحلة العشرين التي لا يدرك قيمتها إلا من عايشها كاملة، بكل تيهها وضلالها، ونورها ودلائلها، بكل حماساتها وانطفاءاتها، بكل معاني الحب، وما ظنّناه حب، وما لم نظنّه حب، بكل شخصيّة تلبّست بنا واعتقدنا بأنّها شخصيّتنا، وبكل تجربة عبرنا بها وآمنّا بأنّها محطتنا الأخيرة والملائمة، بكل الشك واليقين، والإيمان والخوف، فكم أنتِ مذهلة أيّتها العشرين.

اقتنيت أشيائي المحبّبة على مهل، حسب ميزانيّتي وفرصي المتاحة لإيجاد ما يلائم ذائقتي. ولأنني أتأنّى كثيرًا قبل ضم أي قطعة جديدة لأشيائي وكأنّني سأتبنى صديق مخلص، ولأنني أحرص على إيجاد جاذب معنويّ في مقتنياتي قبل أي اهتمام مادّي، كانت القطع التي اقتنيتها عزيزة عليّ. أعزّها تلك التي توثّق القيم التي بتّ أتمسّك بها وأحاول جاهدة أن أحققها في ذاتي وحياتي.


القوّة والصبر:

أذكر قبل كم سنة، رغبتي الجامحة في أن أكون قويّة، وفعلاً لحظتُ طيلة تلك الفترة كيف أن نفسي تقدّم محاولات حقيقيّة في القوّة، بعضها نتج حتى دون وعيّ منّي، ربما لأن العقل الباطن يستوعب ما نرغب به بشدّه ونوثقه في دفاتر أمنياتنا. أعترف بأن تلك الرغبة بالقوّة المطلقة تخلّلتها مفاهيم وتجارب خاطئة وقاسية على نفسي، كانت عواقبها درسًا لاستيعاب التوازن والصبر، الصبر على الأمور التي لا أملك قوّة أو سلطة عليها. والتي تستنزف جلّ الطاقة، في حين كان المفترض أن لا أوليها كل هذه الطاّقة. بالمناسبة أكثر الأمور التي تتملّكنا (تتملّك شعورنا وتركيزنا وتوجهنا العاطفي والجسدي) هي الأمور التي لا نملكها، أي لا نملك حيالها قدرة على السيطرة أو التغيير.

الخلاصة هي أنني أنفر من الضعف المقرون بالصبر، كما أمقت القوّة المقرونة بالعجلَة واستجداء النتائج، أعظم ما استقر في نفسي بعد العشر سنوات الأخيرة هي التطلّع للقوّة مع التأنّي. فالعجلَة تستنزف قوّة أكبر دون نتائج مجدية، والصبر يوفّر الطاقة ويعطيك النتائج في توقيتها المناسب، والذي لا تحدّده أنت على كل حال، فوفّر طاقتك. معونة الله لي لاستيعاب هذا المعنى خفّفت كثيرًا من تذمّري من الظروف أو تغيير طباع الآخرين أو الأمور التي تسير عكس تيّاري وسيناريوهاتي. نعم، الضعف استسلام والقوّة سلام، والعَجَلة مفرّ والصبر مُستقَر!

 

تجلّيات السعادة:

بعد أمواج متلاطمة وآلام متكرّرة في سنواتي الماضية، رسوت على بر الأمان، الأمان النفسي الذي أشعرني بأن السعادة تعتمد أكثر على دواخلنا وليس ما يهبه لنا المحيط الخارجي. أحسست بأن احتوائي لمشاعري بشكل دائم ومسؤوليتي تجاهها هو ما يمكنه تعزيز التغيّر والتحسّن بعد فترات الحزن أو الألم أو الشتات أو غيرها من الموجات الشاقّة على النفس. أحسست بأن المفتاح بحوزتي، وليس من حقّي على نفسي أن تتلاطمني الحياة وكأنني رهينة لها، متى ما سلمتْ سلمتُ، ومتى ما انقلبتْ انقلبتُ. تأكدت في أكثر من فترة بأن رضاي عن الله وعن نفسي وعن الحياة بهباتها الشحيحة أو الكثيرة يجلّي السعادة بنسبة أكبر.

الرضا عن الله والحياة باب واسع وفُسحة للروح، ولا يسعه حديث إنسانة تجاهد أنانيّتها الدنيويّة وتقصيرها مثلي. لكن اللفتة هي عن الرضا عن النفس، تفكرت في كيفيّة أن أكون صديقة لنفسي تمامًا كما أكون صديقة للآخرين. كيف أتعامل مع نفسي بالصدق والوفاء والتواصل والعناية والرعاية! فنحن جيّدون جدًّا تجاه أصدقائنا، لكننّا نهجر دائمًا الصديق الأقرب لنا، ألا وهي ذاتنا. فكيف نواسي ذواتنا في الحزن، كيف نشحذ همّتها في الوهن، كيف نعذرها في حال الإنهاك والإجهاد، وكيف نحبها شكلًا ومضمونًا ونفتخر بها، هذا ما أعنيه بالرضا عن النفس.

ربما كان هذا هو منطلق فكرة إهدائي لنفسي، ولم أزل أضحك على خيبة بعض أحبتي الذين رغبوا بإهدائي أشيائي المحبّبة التي أثرثر عنها، لكنني سبقتهم باقتنائها وشرائها. فدائمًا ما تكسب الأشياء المُهداة جمال وقدر مُهديها، وحين نهدي أنفسنا أشياء محبّبة بهذه النيّة، يولد في النفس شعور بالإجلال، والاحترام والتقدير، لا أستطيع وصفه بدقّة، لكنّه شعور لطيف وطبيعي جدًّا، ومن أبسط حقوقك كذلك!

اقتنيت خاتمًا فضيًّا من متجر حُسن بنقش كلمتيّ صبر وقوّة، رغم تعدد الخواتم والعبارات، لكنّ بمجرّد تصفّحي للمتجر وقرائتي للكلمتين التي تمثّل اهتمامي الحالي بهتين القيمتين، وقع الاختيار عليه. كما اقتنيت أقراط فيروزيّة بنقش جميل لكلمة سعادة من ذات المتجر. واقتنيت أشياء متنوّعه للهوايات والكتابة، وقلادة وساعة ذهبيّة، وأشياء للعناية مع إطار خشبي كتبت فيه اتفاقيّة لطيفة للعناية بصديقتي بشرى.

هنا فيديو متواضع لمقتنياتي التي وثقتها..


الجميل في تلك العلاقة الوثيقة التي يمكننا أن نبنيها بيننا وبين أنفسنا هو الشعور بالغنى، وليس الاستغناء. فالآخرين جزء لا يتجزأ من حياتنا وطبيعتنا البشريّة، لكن أن تكون سند لنفسك، هو مطلب وليس اختيار، وهو بإمكانيّة كل فرد، لأنّه معنويّ بالدرجة الكليّة، وما علينا سوى النيّة!

 

تعليقات

  1. عزيزتي بشرى أحب ما تكتبينه كثيراً، وهذه التدوينة شعرت أنها تتكلم عني كذلك! شعور جميل أن يدلل الإنسان نفسه بهدايا يقتنيها بنفسه من فترة لأخرى دون أن ينتظر شيء من أحد، على كلن wlc to the club

    ردحذف
  2. أهلًا بك عزيزتي دانة، سعيدة بحبّك لكتاباتي والله وبتواجدك وكلماتك وبانضمامي لحزب التدليل الذاتي ^^
    شكرًا لك 3> 3>

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني