أشيائي التي لا تُشترى

 


في زمن تمرّسنا فيه على التفاعل مع الأشياء المصوّرة والمُشاهدة، والمقاسة بالأرقام ومستوى جماليّات المظاهر والمقتنيات وأدق تفاصيل المادّيّات، قد نلهو عن إدراك وجود أو قيمة الأشياء الغير محسوسة، ونميل أكثر إلى الأشياء المحسوسة. مؤخّرًا لحظت كم أن الأشياء الغير محسوسة تلفتني رغب تواريها أو اختبائها، وعدم إدراكنا لها بسهولة. ارتأيت كم هي بيّنة لمن يملك النّباهة الذاتيّة ويمارس التجلّيات الإنسانيّة في مواقفه وتجاربه ونمط حياته بشكل عام. وهذا يعني أن (تتفاعل) مع فكرة وجود معنى لشيء ما دون أن تتحسس وجود ذلك المعنى بشكل فعلي. فعلًا، هو شيء من النّباهة والبعد الذاتي الذي يعتريك ليضيف لك قيمة أكبر من القيم التي يمكنك قياسها بالمعايير المادّيّة أو الكمّيّة.

تراودني أحيانًا رغبة في حيازة الإثباتات على وجود اللا محسوسات، كاعتراف أحدهم لي بالامتنان والشكر على صنيع ما لأدرك مدى جدوى صنيعي ذاك، أو كمعاينة إحصائيات رقميّة تعكس تفاعل إيجابي لمنشور يخصني، أو ربط شعوري بالرضا بعدد ساعات الإنجاز خلال اليوم، أو توقيف شعوري بالسلام على رؤية سلامة كل الأمور والظروف المحيطة حولي. وكأنني أجعل كل تلك الأشياء اللا محسوسة كالأثر الطيب في نفوس الآخرين تجاهنا وشعورنا بالرضا وجدوى تجاربنا ومساهماتنا الاجتماعيّة والشخصيّة ومتعتنا في ممارسة أمورنا متوقفة على الأشياء المحسوسة. وتصدف أحيانًا أن أنال بعض تلك الإثباتات، كقراءة تعليق مفعم بالثناء والحب على كتاباتي، أو اعتراف أحدهم بجدوى صنيعي تجاهه، لكن أتساءل بعدها، ماذا لو لم يرسل الله لي هذا الإثبات على تحقق الأثر والمحبّة والبركة؟ هل سأظل أتصرّف بتفاعل مع هذه المعاني؟ حتى وإن لم أبصرها وأتحسّسها! فكم من الأشياء التي لم تسنح لها فرصة أن يتم إثباتها وتجلّيها مادّيًّا، كم من الأشياء التي لم توثقها الأرقام، أو تدوّنها الأقلام، وظلّت حبيسة القلوب! كم من الأشياء التي لم تلقها سماوات الغيب على مرأى الدروب!

ومن هذا المنطلق، وإيمانًا باختباء الكثير من الأشياء  التي نستحقها في جانب الغيب رغم وجودها، بتّ ميّاله إلى الأشياء التي لا أتحسّسها، لكنني أحسّها، وأدرك وجودها، وأتفاعل معه، وليس وجودها فقط، بل مدى قيمة ذلك الوجود، لدرجة انعكاس تلك القيمة عليّ وعلى إقبالي على التجربة والمبادرة والامتنان نهاية اليوم وغيرها من الممارسات التي تصدر منّي وكأنّني قد عاينت قيمة الأشياء تلك لأتفاعل معها بهذه الطريقة حتى وإن لم أبصرها أو أتحسّسها. أعتقد بأن العيش بمعادلة التوازن بين إدراك المحسوس واللا محسوس يجعل منّا أشخاص إنسانيّون أكثر، أشخاص ينتقلون من الدافعيّة لأجل الظهور إلى الإيمان بأثر العبور، ومن السعي لأجل النيل، إلى السعي لأجل التمتّع بشعور العطاء، ومن الركض لأجل إدراك سباقات وتنافسات الأرقام، إلى المشي أو الهرولة أو الاسترخاء حسب طقس النفس ومناخ الذات وصدق الشعور، مع الإدراك بأن النتائج والأثر والقيم الجميلة باقية وموجودة ونستحقّها، ولا تتأثر أبدًا بتلك المقاييس الملموسة فضلًا عن أنّها لا داعي لأن تُقاس، فجماليّتها تكمن في كونها غير محسوسة، لتشرّع لنا أوسع مدى للتفاعل معها دون حدود. ولربما تفكَّرنا في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلّم، حين كان يؤدّي الرسالة ويبلّغ الأمانة وهو يدرك بأنها ستبلغ ما بلغه الليل والنهار، دون أن يعاين أثر رسالته ووقع تبليغ أمانته بكامل امتدادها إلى يومنا هذا. بل وقد توفّاه الله قبل ذلك.


ما لا يُرى:

الكثير من الأشياء الخفيّة يتفوّق بهاؤها لديّ على الأمور الجليّة، فهي تتجلّى في الشعور، وأنا أقدّر الحدس والشعور كثيرًا. ولا أقتصر في حديثي هنا عن مدى أثر تجاربنا على الآخرين أو ما شابه، بل أعني حتى تلك الأشياء التي تختبئ خلف الصمت، أو المناظر المكرّرة، أو الممارسات الروتينيّة، أو التفاصيل الحياتيّة، أو غيرها من الأشياء التي لا يمكن امتلاكها إلا باليقين والإيمان والامتنان. ولا يمكن قياسها أو ارتباطها بالمحسوسات، أو المزايدة عليها بالمقتنيات، فهي ليست مادّيّات، بل تجلّيّات.

من أشيائي التي تتجلّى في نفسي دون ارتباط مادّي، تخيّلاتي، تخيّلاتي لقصص وأمنيات لم تتحقق بعد، تخيّلاتي للمكافآت المعنويّة والمشاعر الطّيّبة، تخيّلاتي لمن يقرأ كلماتي، نعم، أنت الشخص الذي اخترت في هذا اليوم أن تنقر على صفحتي وترمش في هذه الثانية لتكمل الجملة التالية، وربما تبتسم الآن. ومن أشيائي استقبالي لرسائل الطبيعة كمعاني مخصّصة لي، كالتنبه لتغريد الطير قبل المغيب كتذكير للتسبيح، أو بزوغ القمر كتلويح بالسلام وفرصة البهجة تحت نور إلهي خالٍ من التدخّلات البشريّة، أو لون الزهور وجمالها كوحي بجمال خالقها وعذوبة لمساته الخلقيّة. ومن أشيائي استغراقي في معاني الأوراد الصباحيّة أو المسائيّة واستشعار المعيّة والحفظ. ومن أشيائي العلاقة الحدسيّة الوطيدة بيني وبين الوجوه والكلمات واللافتات العابرة والتي كثيرًا ما تصدق أو على الأقل تُلهم. ومن أشيائي الدعبات التافهة التي تعتريني في ظل الأحاديث أو الأحداث. وغيرها من الأشياء التي حين تفكرت فيها، وجدت القاسم المشترك بينها بأنها ثمينة جدًّا رغم عدم ارتباطها بالمادّة، وبأنّها لا يُمكن أن تُرى، بل تنعكس علينا، لكي نراها، فالطريقة الوحيدة لإدراك اللا محسوس هو التلبّس به، والانغمار في كنهه، والتفاعل مع فكرته. وهذا ما يجعلها تتجلّى في التفاصيل والتجارب والممارسات والعلاقات والسلام والتسليم. فالأشياء التي لا تُرى، لا تُشترى!

أختم بمقطع لطيف، أعدته مرارًا، فهو يصف كيف لنا أن نشتري بالمال الكثير من الأشياء المحسوسة، لكنّ ذات الأشياء تلك، تقابلها أضدادها من الأشياء اللا محسوسة والتي لا يُمكن أن تُضمَن أو أن تُشترى، كشراء المنزل، وافتقاد الوطن!



علينا أن نؤمن بوجود أثرنا الطيّب وكلماتنا البسيطة، وبوجود معاني جليلة في شتى تفاصيل حياتنا قد لا تتجلّى صوريًّا، لكنّها موجودة، حقيقة هي موجودة، ويمكن أن تراها برؤيتك الخاصّة المعجونة بماء نيّتك وطينة شخصيّتك لكي تتفاعل معها وتتعجب من نتائجها، فهي أشياء لا يمكن أن ينازعك فيها أحد، لأنك ستملكها بكامل يقينك وإحساسك الخاص بعيدًا عن كل الورى، فقط بعد أن تتأمل في خلوتك: ما هي أشيائي التي لا تُشترى؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني