عن الضجر الوظيفي والحياة التي نريدها

 


*ملاحظة:

الطرح هنا تدوينة شخصيّة والآراء فيها لا تُعمّم، فأحوال ومستويات البشر تختلف، ومقدرتهم في المحيط الوظيفي على الاختيار والاضطرار تتفاوت، كتفاوت الوظائف نفسها في مدى حساسيّتها وأهمّيتها للفرد أو المجتمع.

أؤمن دائمًا بأن الوظيفة ليست مصدر دخل فقط، بل هي إضافة للمرء في شتى جوانب الحياة الاجتماعيّة والمهنيّة والنفسيّة، وظللت محافظة على هذا المبدأ حتى تناسيته شيئًا فشيئًا دون وعي خلال مرحلة عمل استغرقت سنتين. وفي أواخر السنة الثانية بدأت تطفو على السطح مؤشرات تذكّرني بهذا المبدأ وتسفر عن كيانات تنتمي إليّ يجب انتشالها من الغرق في الأعماق لتستعيد رئتيها وتتنفس في محيط وظيفي يحقق لها معايير هذا المبدأ.

 لا أعني بحديثي هذا هو العمل في محيط وظيفي يحقق لي الرفاهية النفسيّة، مطلقًا، ففلسفة العمل بحد ذاتها ترتبط بالالتزام وتنفيذ ما تمليه عليك المصلحة الإنتاجيّة، وهذا بحد ذاته أمر مرهق للنفس. لكنني أعني بأن لا تخلو مسيرتك الوظيفية من العائد النافع الذي يتجاوز عائد الدخل (هذا إن كان الدخل مرضيًا) وتحقيق المنفعة لأصحاب العمل! فمن حقك أن تتلقى عوائد أوسع ترتقي بشخصيّتك وموهبتك وطريقة تفكيرك وأسلوب معيشتك، وأن لا يتجاوز العمل استثمار صنعتك لاستثمارك أنت كإنسان، بكل ما تحمله من رغبات شخصيّة وعائليّة وتوجّهات ذاتيّة وتطلعات مستقبلية، فتعيقك تلك الوظيفة عنها. أعني باختصار، أن تكون وظيفتك إحدى الدرجات التي ترتقي بها في سلّمك الذاتي للحياة التي تريدها، وألا تكون تلك الوظيفة في معزل (سلّم آخر) للارتقاء نحو الإنتاج السوقي البحت، بينما تجثو حياتك في أسفل ذلك السلّم على ركبتيها متوسّلة لك بأن تعيرها وقتك وجهدك وتركيزك.

هناك منعطَف:

وبذكر التطلّعات المستقبليّة وأحقّيتي في عوائد أفضل، اتخذت خطوة جادّة تجاه عملي، ولم تكن تلك الخطوة إلا بعد أن شعرت بأنني أغرف من جعبتي أكثر من ملئها، أو إن صح التعبير، بدت كفة النفع المؤسسي ترجح على كفّة النفع الشخصي من بعض النواحي التي أفضل الاحتفاظ بها. فقد قررت في فبراير أن أنهي عملي في صناعة المحتوى، بعد سنتين من العمل الدؤوب والمليء بالخبرات والتجارب الجميلة والمثرية مع الطاقم الطيّب والمدير القائد المدرّب، ولعلّي أفرد تجربة صناعة المحتوى كمهنة في تدوينة أخرى إذا سنحت الفرصة، فهي ليست تجربة سلبية بل إيجابيّة، جدًا، لكن العمل تغيّر لمنحنى آخر مؤخرًا لا يلائمني، وأعطيت نفسي الوقت الكافي لإثبات ذلك. بالمناسبة، ترك المرء لعمله لا يعني بالضرورة سوء ذلك العمل أبدًا، بل سوء تعاطي المرء مع ظروف إنجاز العمل على المستوى المرضي باختلاف الأسباب.

أحببت أنني سريعة الضجر تجاه ما يؤرقني، وأنني أدرس ذلك الضجر إن كان اعتباطيًّا وتأفّف من المهام، أم إن كان يمس حياتي وتطلّعاتي وإيماني بإمكانيّاتي، وأمهل ذلك التمييز فترة من الزمن حتى يتضح لي ويثبت صحّته. لأن إتقانك للعمل وإنجازك للمهام بشكل جيد قد يوحي إليك بمبررّات تخرس نداءات ضجرك الداخلي والحقيقي، والذي لا يعد تكاسلًا أو تأفّفًا. فقد تبيّن لي أخيرًا أنني كنت أمارس العمل على وجه الإتقان، لكنني لم أكن أشعر بالامتنان. نعم إنه الامتنان، ذلك الامتنان النابع منك إليك، ورضاك عن إنجازك، ومسيرتك في العطاء وانتمائها لمسيرتك في الحياة، فكنت مثل من يرتقي سلّم ليحقق هدف غيره! وبدل التحجج بأن السلم قد وصل للسقف أو أن الطريق وصل لجدار مسدود، آمنت بأنه يمكن استبدال السلّم بسلّم آخر، أو اتخاذ منعطف.. نعم، لا طريق مسدود، بل هناك منعطف!

ذات ليلة، انتقيت فيلمًا لأشاهده بعد أن شدتني نبذته وتزامنت مع انشغال بالي بفكرة إنهاء عملي حينها. الفيلم بالطبع يحكي شعور أكبر فظاعة وبؤس مما أعنيه أو أقصده، فبطلة الفيلم لم تكن تعاني من الضجر الوظيفي وحسب، بل الانطواء والحزن وعدم القدرة على التعبير واهتزاز الشخصيّة، والتي أثرت حتى على تعاطيها مع موظفة جديدة، و صعوبة التماس التقدير من الآخرين والشعور المستمر بتأنيب الضمير. الجدير بالذكر أن المحيط الوظيفي إن لم تشعر بانتمائك له أو تعاطيه السلس مع حياتك بشكل معقول، فقد يؤدي بك الأمر إلى تراكمات تشكّل شبكة (تكبر تدريجيًّا) من التحديّات والأوهام والتصوّرات السيئة في محيطك الوظيفي نفسه أو الخارجي ليشمل الأسرة والهوايات والأنشطة الطبيعيّة!

المقطع الإعلاني للفيلم قد يغني عن مشاهدة الفيلم ^^ فالفيلم رتيب جدًا كونه يأخذك لقضاء يوم واحد بأكمله مع موظفة تعمل كمساعدة في مؤسسة تخص رجل ثري ومشهور وتتخللها قضايا فساد أو ما شابه. أحببت عمق الشعور وتصويره في كل مشهد، الارتباك، الضغط، التشتت، الرغبة في الهروب، الحنين للعائلة، تناول وجبة بملل، المجاملة وارتداء الأقنعة لإرضاء العملاء، وغيرها من الضغوط الوظيفيّة المؤلمة جدًا... جدًا.  


إن تمسكنا بالطاولة الوظيفية بمستوى يؤلمنا، سوف يقلب تلك الطاولة علينا، ويقلب نظرتنا تجاه أنفسنا، لنشعر بأن العلّة تكمن فينا، فيتغيّر تقديرنا لذواتنا ونشعر بأننا نحن من يجدر علينا أن نضغط على أنفسنا بشكل يفوق طاقتنا لنلائم ذلك المحيط الوظيفي، ويغيب عنا أن لدينا إمكانيّات عظيمة، لو أدركناها جيّدًا، لعلمنا بأنها هي من يستحق منا التواجد في مكان يلائم تلك الإمكانيّات المذهلة بكل بساطة، لا العكس. وأختم تعقيبي على الفيلم بتعليق بليغ قرأته أسفل المقطع الإعلاني: " إن كان الفيلم يمثل واقعك، فعليك أن تدرك فقط، أنه لا وظيفة تستحق حياتك، وراحة بالك، وشعورك بالسلام.


ما وراء المنعطف:

أعلم بأن الواقع صعب، وبأنه من النادر أن نجد من يحقق له محيطه الوظيفي كل ما ذكرته آنفا، لكن أعتقد بأن البحث عن التحسين والمصارحة بما يؤذيك واقتراح حلول يتفق عليها الطرفين هي أضعف الإيمان تجاه عوائد أفضل. فليس ترك العمل هو خيار متاح دائمًا، لكن إبداء الملاحظات والمطالبة بحقك بقدر المستطاع قد يكون خيار ممكن. فاتخاذنا منعطف آخر بشكل سليم (أو بأقل ضرر ممكن) تجاه بيئتنا الوظيفيّة يتيح لنا فرصة العيش في بيئة أفضل على الصعيد الشخصي والأسري والمجتمعي.


قرأت قبل فترة كتاب "أهم خمسة أشياء يندم عليها المرء عند الموت" لبروني وير، وهي امرأة ألهمتني كثيرًا بسرد سيرتها تجاه منعطفاتها الحياتيّة والتي كان من أهمّها منعطفها الوظيفي. فقد كانت بروني تعمل في وظائف رتيبة كانت تسبب لها الكثير من الضجر والسأم، كعملها في الوظائف البنكية التي سلبت منها متعتها وإحساسها الجميل بالانتعاش. حتى اتخذت قرارات شجاعة (بالرغم من أنها عرضتها للخطر والإفلاس) لترينا ما وراء تلك المنعطفات وما يكمن خلفها من فتوحات حياتيّة قد لا نتصوّرها. 

فبروني أخذت تتنقل وتجرّب تجارب عديدة تعرضت فيها للكثير من التحدّيات والقسوة على ذاتها وغيرها من الصّعاب، حتى وجدت نفسها تنساب بشغف وحب تجاه وظيفة الرعاية التلطيفيّة لمن يعانون من أمراض مزمنة تحتّم عليهم مفارقة الحياة في فترات قصيرة. وحيث أنها كانت تشعر بالراحة في خدمة هؤلاء المرضى بعد معضلة شتاتها وبحثها عن مرسى آمن ترسو فيه لتمارس ما تحب، وجدت ضالة حياتها في حكايا الموتى. فقد كانت تنصت لأمنياتهم المؤجلة ورغباتهم الفائتة، ودروسهم التي يملونها عليها كي تعيش حياة أفضل، فأدركت في كلماتهم الكثير مما كانت تفقده، وكان رحيلهم سببًا في بقائها على قيد الشغف. وقد كانت أوّل الأشياء التي صرّح بها المحتضرون بين يديّ بروني أنهم تمنوا لو أنهم عاشوا الحياة التي يريدونها لأنفسهم، لا الحياة التي يتوقعها الآخرون منهم. وفي هذا الباب، تحكي بروني تجربتها قبل استيعاب هذا الدرس أثناء عملها في البنك فتقول:

أكثر ما جعلني أستمر في ذلك العمل هو الخوف من التهكم الذي قد أواجهه من أفراد أسرتي إذا هربت من الوحل الذي يتوقعون مني الاستمرار فيه. لقد كنت أعيش في حياة شخص آخر ولكن بخطواتي أنا، ولم يكن ليفلح الأمر معي أبدًا بهذه الطريقة. وحتى الآن ما زلت أغير وظائف البنوك والأزياء الرسميّة والمواقع بين الحين والآخر. وكنتيجة لذلك، وجدت نفسي على مسار مهني متسارع، نظرًا لأنني تعاملت مع معظم البنوك، وتقمصت الكثير من الأدوار أكثر من أي شخص في مثل عمري. لقد كنت ناجحة ولكن في المكان الخطأ. ولشدة استيائي، استمررت في شغل أسبوع عملي في صناعة لا تمنح أي شيء لروحي. يوجد العديد من الناس الذين أحبوا عملهم في مجال البنوك، وأنا سعيدة للغاية لأجلهم، فالبنوك تحتاج أشخاص مثلهم! فقد كنت أعيش الحياة التي يتوقع مني الآخرون أن أحياها، لا الحياة التي أردتها لنفسي.

هنا مقطع قصير لتجربة بروني في تأليف كتابها، أحببت تعبيراتها البسيطة وروحها البريئة ومشاعرها التي تحاول بثها بصدق في كل من يستمع إليها، فقد عاشت تجارب مكّنتها من إثراء كتابها لتحقيق حياة بأقل ندم ممكن، ومن هذا المنبر أنصح بقراءة الكتاب.


هذا الكتاب بالتحديد لم يكن سببًا في اتخاذي لقرار إنهاء عملي، بل أكد صحته لي، فقد كنت أقرأ مشاعر بروني وأنا أشعر بشيء منها أو مشابه لها، حتى وظيفتها في الرعاية التلطيفيّة لامستني. وسأستطرد عن موضوع التدوينة قليلًا للحديث عن هذا. فأحيانًا الحياة تضعك في مواقف تجعلك تفكّر: يا إلهي..هل فعلًا لديّ هذه المهارة .. كيف ظهرت في هذا الموقف..وهل يمكنني استثمارها كمهنة! كما بروني التي لم تكن تتصوّر أنها تصلح لمجال الرعاية هذا. أجل، لقد وضعتني الحياة في موضع بروني، ولكن ليس مع شخص محتضر، بل مع شخص مريض يتطلب رعاية فائقة، اضطررت (بلا وعي مسبق بكوني أهل لهذه المهمّة أو لا) لرعايته رعاية نفسيّة وجسديّة بشكل تعجّب هو منه، وأخذ يحكي عنه بعد تماثله للشفاء، بأن بشرى صدمتني بتلك المهارات وتنفع أن تكون في مجال الرعاية والتمريض. ضحكت في الحقيقة، وقلت هل فعلًا أنا صالحة للعمل في مجال الرعاية والمواساة والاحتواء النفسي! لكنني أدركت بأنني وإن امتلكت بعض من هذه المهارات، فلن أطيق استحمالها لفترة طويلة أو كمهنة، وذلك لشعوري السريع بالملل والتعب أكثر من الجلادة والتطبيب، ولممارسة البهجة أكثر من مواجهة الحزن والضعف. وهذا ما حدث مع بروني كذلك، فبعد أن خاضت تجربتها مع الرعاية التلطيفية، أصيبت بالكثير من الإنهاك، وتذكرت الدروس الخمس لمن عاشرتهم قبل رحيلهم والذين ألهموها باتخاذ المسارات التي تجعل حياتها أفضل في كل يوم. فاعتبرت بروني أن وظيفتها في الرعاية التلطيفيّة لم تكن إلا إلهام لاختيار وظيفة تلائمها،  فتوجّهت للعمل في مجال تحبّه وترتاح فيه وهو التأثير المجتمعي والتحفيز الذاتي بإقامة الدورات والجلسات التطويريّة وتأليف الأشعار وغنائها. وهذا بالضبط ما كان وراء المنعطف الذي اتخذته... الحياة التي تشبهها.

في هذه الفترة، أشعر بشيء من الخفّة حين خطوت خطوة جريئة، سعيدة لأنني أدركت بأن الحياة لا تستحق كل هذا العناء، وبأن المال لا يضاهي راحة البال، ولا أقول هذا بمثاليّة ساذجة، بل بوعي كبير، رغم تواضع تجربتي وخبرتي.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني