مفضّلاتي من الأيّام الهادئة


حين تفسح لي الحياة أيّامها لقضاء أوقات هادئة وسط لصوص خلوات النفس والشواغل أجدني أنتقي ما يثري ذلك الهدوء، كالقراءة الورقيّة أو الإلكترونية أو مشاهدة محتوى مرئي أو مسموع أو الكتابة أو غيرها. تلك الممارسات في مثل هذا التوقيت تضفي الشيء الكثير إلى نفسي وأيّامي. لذا، أحببت فكرة توثيق بعض مفضّلاتي من تلك الممارسات في تلك الأيّام والأوقات بتذييلها بشيء من التفصيل والتعليق من منظور شخصي. فكل مفضّلة منها كان لها أثر ومعنى جميل يستحق التخليد. 


ABtalks  - مقابلات أنس بوخش:

تعرفت مؤخرًّا على قناة يوتيوب لإعلامي يُدعى أنس بوخش، وحين شاهدت أحد لقاءاته، أعجبت بأسلوبه كمذيع. فكل لقاء هو بمثابة حديث هادئ وعميق مع الضيف، يمتهن فيه أنس النظر إلى عينيّ الضيف وسؤاله بنبرات هادئة تتغلغل في النفس لتستخرج الأجوبة والمعاني يأسلوب صادق يتفاوت بين مستوى صراحة كل ضيف وتلقائيته. لم أشاهد حلقات كثيرة، فقد شاهدت حلقتين فقط، والحلقة الثالثة كانت الحلقة الأجمل والأقرب إلى ذائقتي. وهي مقابلة أنس مع والدته المؤثرة هالة كاظم. هالة كاظم شخصية لفتتني منذ فترة وكنت أرغب بالتعرف عليها عن قرب، والمفاجأة كانت بالنسبة لي هي أنها والدة ذلك المذيع. اللقاء كان جريئًا كلقاء بين ابن ووالدته، وما شدّني في الأحاديث هو المسيرة الحياتيّة لهالة ذاتها، وطريقة أنس في تماسكه أمام صراحتها ودموعها واعترافاتها واتخاذ دور المذيع باحتراف. أحاديث هالة كاظم هنا برغم هدوئها ولطافتها كانت أشبه بالدروس والحكم والرؤى الجادّة للتغيير نحو الأفضل فيما يتعلّق بمعرفة الفرد لذاته وراحتها وموضع تلك المعرفة في العلاقات العاطفية والارتباط والتربية.

 

رحلة مجّانية عبر القطار السيبيري:


لطالما كنت وما زلت متفائلة بعودة التدوين العربي القيّم، ولكن حين زرت مدوّنة المدوّن والرحالة عمر الصغيّر أدركت بأن التدوين ليس في طريقه للعودة فحسب، بل في طريقه للازدهار. فالمدوّنة تهتم بالتدوين المطوّل عن أدب الرحلة العربي الفصيح. وقد كانت آخر تدويناته هي تدوينة رسائلية مطوّلة بعنوان "جريمة القطار السيبيري العظيم" التي نشر فيها رسائله الشخصية لتوثيق رحلته في القطار السيبيري في أكتوبر من العام الماضي.

وبالرغم من طول المحتوى إلا أن قراءتي له على فترات وأياّم متقطّعة كانت أشبه بخوضي تلك التجربة فعليًّا. فالشعور الذي رافقني أثناء قراءة التدوينة كان شعور لطيف جدًّا تخلله الدهشة بفعل المعلومات التاريخيّة عن القطار والثقافات والشخصيات المتنوّعة التي تعتلي ذلك القطار، والمغامرات والمواقف المضحكة التي تم ذكرها فضلًا عن التوثيق الصوري للمناظر الجميلة. كانت تلك القراءة أشبه بتذكرة مجّانية تقلّ القارئ عبر تلك الرحلة. فالرحلة تغدو مختلفة جدًّا إن كانت عبر المركبة ذاتها لا الوجهة. 

لقراءة التدوينة ( من هنــا).

 

مذكّرة  One Thousand and One Things" " :

مذكّرة One Thousand and One Things اقتنيتها من متجر إثراء في زيارتي الأخيرة إعجابًا بشكلها ونمط صفحاتها المثبّت بالخيوط لا الأسلاك بالإضافة إلى ملمس الصفحات الطبيعي البسيط. بعدها أخذت أفكّر في المحتوى الذي سوف أكتبه في مذكّرتي هذه، فلم أجد أية فكرة وفضلت الاحتفاظ بها فارغة حتى تحين الحاجة إليها. وقد تبيّنت تلك الحاجة للمذكّرة حين بدت تتكاثر وتتبعثر وريقات فضفضاتي الكتابيّة. فمنذ فترة جرّبت الفضفضة الشخصيّة بالكتابة على الورق عن أي شعور يستعصي على الكتمان أو النسيان لكنني لم أعر أهميّة كبيرة لتلك الفضفضات بتخصيص مذكّرة لها. فقد كنت ألتقط ورقة من أقرب دفتر أو كتاب أو أجندة بقربي لأكتب فيه فضفضتي فكانت النتيجة هي الكثير من الأحاديث الخاصّة في أماكن غير خاصّة.


ومنذ ذلك اليوم، ألقيت نظرة على مذكّرتي القرمزيّة هذه وتأملت أوراقها الكثيرة وحجمها الكبير وعنوانها الذي سوف يحتضن "ألف شيء وشيء" من كوامن القلم، فقررت تخصيصها للمشاعر، وفضّلت أن يرافقها دائمًا القلم الرصاص. وذلك للكتابة بدون تنمق وتنسيق، بل بكل عشوائية وانسيابيّة بما توحي إليّ مشاعري في لحظتها.

أكملت شهر بالضبط برفقة الكتابة في تلك المذكّرة، وكانت فعلًا رفيقًا وفيًّا في الأوقات الهادئة وغير الهادئة. فالمشاعر تولَد بداخلنا لا لكي تبقى، بل لكي تخرج، بمختلف رداة الفعل. ونحن نخرجها فعلًا بردات فعل متنوّعة، لكن ثمّة مشاعر تبقى في القاع بيننا وبين أنفسنا، ربما لتفاهتها او لأننا نخجل البوح بها، لكنها تنتظر لتخرج فهذا من حقّها، ولو كان خروجها هو أمامنا، وأمامنا فقط، فنكتبها، ثن نقرأها، فيرتد صداها بين الورق لندرك بأن صوت تلك المشاعر قد غدا مسموعًا. وهنا شعرت بكثير من الأنس والتخفف.


الانسياب مع إيقاع الطبيعة:

من المفضّلات التي تثبّط فوضى الأيّام والأذهان هي الانسياب مع إيقاع الطبيعة. قد تبدو الفكرة مضحكة، فعن أي طبيعة نتحدّث في بلادنا التي يغلب عليها قلّة التشجير أو عدم توفّر جنان خضراء أو شلّالات ضخمة من حولنا. بالمناسبة، الطبيعة لا تقتصر على تلك المناظر التي في مخيّلتنا فحسب كما كنت أظن. وقد تنبهّت لخطأ ظنّي هذا حين كنت ألجأ لاختيار صوتيّات مطوّلة من الساوندكلاود لصوت أمواج المحيطات أو هطول المطر أو حتى صوت تغريد العصافير أو صوت الهواء العابر بين الشجر. ففي كل تلك الأصوات تحقيق للهدوء برغم تفاوت مصادرها. فإن لم نمتلك غابة غنّاء أو محيطات شاسعة أو شاطئ يمكننا أن نطل عليه كل يوم، فإننا نملك سماء من أعلى السطح أو شجيرة في أسفل المنزل أو نافذة تبعث بضياء الشمس أو نور القمر.

وجدت أن الجلوس خارج المنزل ومراقبة السماء والطيور وقت الغروب وكيفية تحليقها والسماح للنفس بالانسياب مع تلك الحركة يعيد لنفسي إيقاعها الطبيعي. فالطبيعة تتحرك وفق إيقاع متوازن، وبمجرّد تعرّضنا له نعود للاتزان بشكل حقيقي. لذا، بت أستجيب لعدم إهمال ذلك النداء بالحاجة إلى التعرّض للإيقاع الطبيعي والتأمّل في نفسي، بل وحتى إن لم أجد ذلك النداء، سأقوم بالتعرّض للطبيعة. فأقوم بالمشي في الحيّ، أو بقرب الشجر، أو أنصت لتغريد أو تسبيح الطيور الكثيف قبل الغروب، لأرى أثر ذلك في نفسي بعد أن أعود للداخل. وهنا قد أخذتكم معي أثناء سيري في ساعة غروب تكتظ بتغريد الطيور، لأقترب من  مصدر الصوت وهو أسفل شجرة وأترك للكاميرا توثيق المشهد. ويتضح هنا توزّع الطيور المغرّدة بين الأغصان المتشابكة وقفزاتها البريئة.



يرتسم أمامي محيّاك:

أميل في سويعاتي الهادئة إلى الإنصات للأعمال الفنّية الهادئة التي تحدث صخبًا في المعنى، وتجعلني أتأمّلها بإلهام حتى يولَد ذلك المعنى، كهذا العمل الذي شاهدته وهو بعنوان "يرتسم أمامي محيّاك" والذي منحني فرصة تذوّق الجمال. الكلمات الفصيحة لها شأنها الكبير ومعانيها الجميلة بنبرة الأداء والإيقاع الشجي، لكنّ تصوير تلك المعاني كان أعظم. فكون معاني الكلمات تطرق خبايا في النفس والشعور، جاء التصوير مركّزًا على خبايا المشاهد وما وراءها. فنلاحظ اللقطة الأولى حين تطفئ الفتاة إنارة المنزل وتخرج للخارج، فيحدث العكس، فقد انطفأت المشاهد التي نراها، واشتعلت المشاهد التي لا تُرى، ألا وهي المشاعر. فحقيقة الأمور تكمن فيما لا نشاهده، وكم من الحكايا التي هُتِكت حقائقها بفعل تصديق ما يُرى في النور والتعامي عمّا يُرى في الظلمات.

التصوير تحفة عجيبة في تجسيد الصدفة والتردد وخجل الأنثى من المبادرة. كما استوقفني تجسيد التخلّي ثم الشعور بالجذب وبأن ثمّة تفاهات عالقة تعيد لنا العابرين فنكتشف بأنها لم تكن تفاهات، بل مشاعر عميقة ممزوجة بالروح لا يضرها اختلاطها وامتزاجها بالعابرين. تجسيد الشخصيات كالكائنات الهلاميّة أصابني بالدهشة الممزوجة بالرعب، فكم هي الظروف التي يصارع فيها اثنين لكي يبقيا معًا، ظروف إدراك أهميّة كل منهما للآخر، أم ظروف نضج ذلك الحب، أم ظروف التدخّلات الاجتماعية أو التطفّلات اللا أخلاقيّة، إنّه لأمر منهك أن نبقى معًا، لكن الأجمل والأروع والأحلى والذي يجعل ذلك الإنهاك بلسمًا هو أن كلا الطرفين يسعيان بنفس القدر لإبقاء ذلك البقاء.

ختامًا، ممتنة لتلك المفضّلات، ويمكنني القول بأن مفضّلاتنا البسيطة هي من تعطينا مذاقًا حلوًا للأيّام، وطاقة روحيّة نعيش بها أيّامنا المزدحمة بمتطلبّات الدراسة أو العمل أو الالتزامات الأسريّة.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني