كم يحيينا الموت















اليوم شعرت برغبة جامحة للكتابة، لكنها رغبة هادئة في نفس الوقت، كهدوء نفسي في هذه الساعات المتأخرة من الليل بعد أيام مضطربة. كانت أيام متتابعة وكان القلق فيها متتابعًا، كموج البحر الذي يعلو ويهيج ثم يهبط ويسترخي، لكنه في تتابع. انتهت تلك الأيام بوفاة خالتي الحبيبة رحمها الله مساء يوم الخميس لتبدأ الذاكرة باسترجاع اللحظات الأخيرة ووضع نقطة فاصلة لها لاستيعاب ما بعدها من أحداث ومشاعر. نعم إنها المشاعر، مناط الحديث وجوهر الأحداث، مشاعر الصدمات والآلام والدمعات المحبوسة في أشد اللحظات والمنهمرة في أرقّها حساسيّة، مشاعر الأحضان العميقة التي نود فيها أن نتبادل النبض وأن يجود كل منّا بمضخّة كافية وشافية للآخر كي يكون بخير. مشاعر فرش أذرعنا كي يستلقي عليها من لا يملكون القوة حينها ليعيشوا اللحظات الصعبة، مشاعر تمتمات الآيات الهامسة فوق رؤوسهم المنهكة. كانت الليلة الأولى أشبه بالمخاض، لنولَد في الصباح. ففي صباح يوم الجمعة، استيقظت المشاعر المحزونة مجدّدًا ممزوجة بشعور الآزفة ودنو الرحيل الحقيقي ببدء مراسم الغسل والدفن، كانت أشبه بالخروج من عنق زجاجة. هرعت للصلاة، وأتذكَر جيّدًا كيف كان يفعل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حين يحزبه أمر، أي يشتد عليه أمر، كان يهرع للصلاة، الصلاة فقط. يقف فيها أمام مدبّر الأمر، ليسلّمه الأمر، وينشغل بالتلاوة والتسبيح بين الركعات والسجدات. إنّها معجزة الملمّات. كانت هذه الطريقة النبيلة في احتضان زفرات المشاعر الفارّة إلى اللا شيء، ولتوجيه كل فكرة شاردة إلى وجهة واحدة، فانزاح حمل كبير من الوهن، لتحلّ القوّة في موضعه. والحمد لله، لم يمضي وقتٌ طويل حتى بدأت تتوافد إلي أخبار مطمئنة بل أخبار مبشّرة بأن خالتي ترفع السبّابة رغم محاولة قبض أصابعها، والابتسامة ترتسم على وجهها، تلك الابتسامة الدقيقة في إيصال رسالة الفرح الأخروي. حيث كانت كمن تم التقاط صورة له لحظة دهشة مفرحة أو خبر سعيد، هكذا تمامًا. لا أنسى لحظتها كيف شعرت باخضرار قلبي، وانشراح صدري، وسرور نفسي، بت أرى نوافذ بيتنا أكثر اتساعًا، ونور الشمس المشع منها في صباح يوم الجمعة المبارك أكثر ضياءًا، وأبخرة العود التي نعتاد إيقادها في كل جمعة أكثر بهاءًا وطيبًا. كان الشعور كصبيحة العيد، مع ثياب أهلي البيضاء وهم يتأهبون للخروج للصلاة. وقد تزامن ما نمر به بخطبة الجمعة المواسية للروح وحديث الخطيب عن الدنيا.



وحين اجتمع شملنا مع أقاربنا في المساء للعزاء كانت الوجوه تختلف عمّا كانت عليه بالأمس، كل شيء مختلف، المشاعر، القلوب، السكينة، الرغبة في الحديث بدل الرغبة في النواح أو البكاء، وغيرها من الألطاف الإلهية. كانت الأحداث دعوة للتفكّر من حيث لا أحتسب، تفكّرت في الحقيقة في جل هذه المواقف، تفكّرت في الرحيل، في الفقد، في قبضة الموت الخانقة التي تفضي بنا للحياة، أجل، كم يحيينا الموت! كم يحيينا الموت حين يوقظ فينا حقيقة ضبابيّة من المفترض أن تكون ناصعة وبهيّة، وهي حقيقة العيش دون تعلّق يفضي بنا إلى الخوف، الخوف من الفقد، الخوف من المرض، الخوف من الخوف نفسه، والرغبة في استبقاء كل البقاء، وكراهية الفناء. فالرغبة في جعل الحياة على أكمل وجه هو أسوأ ما قد نقترفه، والتخفف من ذلك هو أفضل ما نقدّمه لأرواحنا. لأن الحياة لن تكون كذلك، كما أن تلك الرغبة ستشعرنا بالخوف من أي شيء يكدّر صفو تلك الحياة. لقد أحيت فيني مشاعر الفقد الأخيرة إدراك مختلف للحظات الصعبة، وللوعة الحزن، ورهبة ترقّب الأقدار، ونار الانتظار. الإدراك الذي سطع في روحي تمثّل في أن العبور في لحظات الوجع لا يجدر به أن يمتزج بالجزع، فمن حقنا أن نخاف، لكن ليس من حقنا أن نجعل ذلك الخوف هو من يحكم سلوكنا وردة فعلنا. الإدراك الذي آمنت به أكثر هو أن الله أكبر، وأن القوة التي نتمنّاها في هذه اللحظات الصعبة تكمن في الاعتراف أمام ربنا بالضعف، فهو القويّ. ولا مناص من ذلك إلا بالبراءة من حولنا وقوتنا إلى حوله وقوّته. أتعجّب من تبدّل الأحوال بعد فترة عصيبة وطويلة، وبين تقلّب القلوب بين مساء الخميس وصباح الجمعة، وبين تلك اللحظات القلقة قبل الصلاة وبعدها، فالأفكار والمخاوف لم تتغير بعد، لكن القلب اطمأن! وهذا هو العجب. فلا ظلمة ستبقيك في كهوفها، ولا حزن سوف يضمك في جعبته، لأنه وباختصار أنت وُجدت في تلك الصعوبات لكي تعبر، تعبر فقط، فتستعين بعبورك في تلك الأيام الوجلة والمظلمة بنور الله، والحوقلة والاتكاء على الرجاء، لتُفرج بأسباب أنت لا تستوعبها. ربما تبدو كلماتي غير منتظمة أو منمّقة، لكن الشعور حاضر، وهذا يكفي لإيماني التام بصدق ما أكتب في الساعة الثالثة فجرًا. ولا أنسى جملة إحدى قريباتي اليوم حين قالت، الرحالون ببشارات حسنة قد رحمهم الله، نحن من يحتاج رحمة الله بعدهم. فعلًا، وها نحن ندرك تلك الرحمة بأعمق الإدراك، فنراها في معيّته الله وإحالة أعسر اللحظات إلى أيسرها، وأقسى الأقدار إلى أخيرها، وأفظع الفقد إلى رضا تام وابتسامة اطمئنان. عجيبة هي الحياة فعلاً في طريقتها الخاصّة لإيقاظنا، وكأنها تقول: لا تتعجبوا من أكداري وأقذاري، بل تفكّروا في أقداري، ولا تكرهوني بسبب الموت، فالله خلقني هكذا، لكي تعبروني مرّة، وتعيشونني بالإيمان ألف مرّة.



تعليقات

  1. رحم الله خالتك وغفرلها، واسأله أن يرزقنا وأحبابنا كلهم خاتمة حسنة مثل حالها كما نحسبها، تدوينة دافئة.

    ردحذف
    الردود
    1. اللهم آمين لدعواتك الطيبة.
      وجودك الأكثر دفئًا. شكرًا!

      حذف
  2. أعظم الله أجركم وأحسن الله عزاكم وغفر لميتكم وألهمكم الصبر والسلوان

    ردحذف
    الردود
    1. اللهم آمين وأجرك يارب، شكرًا أسامة لدعواتك الطيبة.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني