القدرة على تذوّق الجمَال

 













حين كنتُ طفلة، كُنت مولعة بالجمال بأدق تفاصيله، وبطبيعتنا كأطفال سوف نلحظ جماليّات في التفاصيل من حولنا ونعيش معها بأسلوب انسيابي لا يتعارض مع واقع المادّة والمنطق من حولنا، كوننا لم نحمل بعد مسؤوليّات ذلك الواقع. وحين كبرتُ وخضت بطبيعتي البشريّة تحدّيات الواقع، لحظت بأن العيش في الواقع بواقعيّة بحته جعلني أنخرط في مبادئ لا واقعيّة، بمعنى، أنّني بت أحاول تشكيل أسلوب عيشي في قوالب مصمّمة بإحكام لتماشي الواقع ولتطابقه وفق منطقيّة عالية. فعلى سبيل المثال، قد لا نرى في بعض الممارسات الفنّية جماليّات عميقة من شأنها أن تأخذ منحى أسلوب حياة بدلًا من اتخاذها كأداة متعة وقت الفراغ لنتجه إلى ملئ أوقاتنا بما هو أهم في نظرنا، كممارسة ما ينتزع من روحنا روحها فقط في سبيل منطقيّته ونفعه المادّي. أو بمعنى آخر، قد ننظر إلى الواقع والأحداث والروتين العملي الذي نعايشه بصورة ثابتة تضع ذلك الواقع والمنطق في المقام الأوّل وما سواه من استشعار جمالي تأمّلي في ذلك الواقع أو إسقاط حسّي كأمر ثانوي أو زائد أو غير ضروري.

ومع مرور الوقت، ستحيلنا تلك المنطقيّة القاسية إلى الفراغ، أو الامتلاء المجوّف، فطغيان المنطق في تفاصيل الحياة والعلاقات والحوارات وتعاطينا مع الفرص والأمنيات والتحدّيات منهك أشد الإنهاك، والعيش بهذا الأسلوب يحجب عنّا الجانب الآخر من العالم الواقعي نفسه. فالواقع بالرغم من طبيعته المجبولة على الكبد أو الصعوبة أو الصراعات يحمل في طيّاته جماليات، تلك الجماليّات تختبئ خلف المنطق والمادّة والقانون، وتكمن في الحس والشعور والعاطفة والكلمة واللحن والنبرة واللون والصورة. فهي لا تُرى بعين المنطق، بل بوتر الإحساس والنبش خلف التفاصيل. ووجودها الضمني العميق لا يعني عدم وجودها كما يظن البعض ممن يغرقون في الواقع وينادون بنا أن اصحوا من خيالاتكم واستيقظوا من سباتكم! فالجماليّات ليست خيال أو مُحال، الجماليّات موجودة فعلًا لكن ككائنات هلاميّة تحيط بنا، وبمجرّد إدراكنا لها ومحاولة المساس بها حسّيًّا، سوف تتمدد وتغمرنا، فنشعر بها ونتذوّقها.


الله جميل يحب الجمال:

في الفترة الأخيرة صادفت هذا المعنى في مواقف مختلفة لكن برسائل مكرّرة حول الجماليّات الحياتيّة والقدرة على تذوّقها، بالرغم من أنّني أكتب في صفحة معرّفي على الانستقرام منذ سنوات "مدوّنة، قارئة، متذوّقة للجمال" لكنني لم أكن أحيط بعمق وحجم مصطلح تذوّق الجمال، فهذا المصطلح الذي فهمته أكثر فأكثر في الفترة الأخيرة جعلني أقدّر هذه الميزة أو لنقل "القدرة" على إدراك الجمال والإحساس به سواء أكانت قدرة فطريّة أو مُكتسبة.

أحد تلك المواقف كان بالتفكّر في معنى {إن الله جميل، يحب الجمال}. فإن كان الخالق سبحانه الذي فطر الكون يتصف بالجمال، ويحب الجمال، فكيف لا ندرك نحن (البشريّة التي ذرأها الله في هذا الكون) كوامن هذا الجمال الموجود فعليًّا. وما أوضح هذا المعنى في تعايشات الناس المتفاوتة أثناء معضلة العزلة الجبريّة التي اضطرت لها البشرية في هذا العام، فلجأت إلى خلق الجمال من كوامن الصمت أو الوحدة أو البعد أو السأم، بل خلق حياة جديدة تتفجّر بالجماليّات، كمن قاموا بابتكار أعمال أدبيّة، أو فنّية، أو علمية، أو حتى مَن تمكّنوا من رؤية الجمال في أنفسهم من دون قيَم مضافة من الخارج في هذه الفترة الصعبة، فكل هؤلاء وبالرغم من قبوعهم في واقع ومنطق مؤلم وثقيل على النفس تمكّنوا من إدراك الجمال. وهنا تكمن القدرة على تذوّق الجمال.

ويمكننا في المقابل تمييز من لا يدركون للجمال وجود، ويظلون ينتظرون كل العمر موعد صفاء الواقع واعتداله وخلوّه من القبح، حتى يفنى العمر، فلا هم الذين قد رضوا عن واقعهم ولا هم الذين قد رضوا عن أنفسهم. وحسبنا من هذه الحقيقة البيت الشهير القائل: طُبعتْ على كدرٍ وأنت تريدها ** صفواً من الأقذاء والأكدار". وأرى بأن شعورك بالسعادة بجملة صباح الخير أو بكلمة شكرًا، وتناغمك مع رقّة الزهر وعذوبة الشعر، وإدراكك للطافة القرب أو الابتعاد والود أو العتاب، والائتلاف بوجود الاختلاف هو من أعظم النعم التي ستبقيك راضيًا عن الحياة.


التربية على تذوّق الجمال:











أحد المواقف التي صادفت فيها معنى تذوّق الجمال كذلك كانت قراءة مجلة (القافلة)، لأعثر فيها على مقال رائع لثناء عطوي بعنوان "التربية على تذوّق الجمال"، والذي حفّز فيني رغبة التدوين عن هذا الموضوع. المقال يتناول تعريف الجمال وتذوّقه وكيف لنا أن نربّي أنفسنا وأجيالنا على هذا الحس لجعله أسلوب حياة. تقول ثناء في مقالها:

" حولنا كثير من الجَمَال الذي يستحق انتباهنا، لكن أن يتربَّى المرء على رؤية الجَمَال، وعلى إشباع النهم المُطلق للعين، وأن يتعلَّم منذ الصغر شفرة بصرية تحدّد ما هو جدير بالبصر والنظر على حد سواء، فذلك يعني مسألة تقع في صلب التربية على تلقّي الجماليات، وعلى كيفية تأمّلنا للطريقة التي تظهر بها الأشياء، واستشعار حساسية خاصة بعيداً عن التأثّر بالأذواق العامة؛ إنّها أخلاقيات الرؤية، وإمعان في طبيعة التجربة الجمالية، التي تعلَّمنا أن ننبش في اللوحة والصورة والزيّ والوردة والطعام وحتى الأفكار والمفاهيم، بعينِ الدهشة."

"يعمل الجَمَال على تكثيف العالم ومضاعفته، هو يعلو على الواقع ويتجاوزه، بعيداً عن تدخل العقل والمنطق، ويحمل لنا متعاً غير معهودة، ولا متوقعة، بل “انتظاراً سرّياً”، أو شيئاً ما يشبه القشعريرة التي تسري في أنحاء الجسد، وتدفع الحماس إلى أعلى درجاته، وتفاجئ تطلّعاتنا المسبقة عن الشيء؛ إنّ “كل معرفة تبدأ بالدهشة” هذا ما يسرّ به أرسطو، والجَمَال هو الذي يعمّ كل ما نراه من دون أن يتجسَّد في شيءٍ معينٍ، ويحرِّر الإنسان من التعصب والكره والخوف."

 استمتعت جدًّا بقراءة المقال، فقد أبدعت ثناء في الإلمام بالمعنى من عدّة نواحي، ومن حسن الحظ أن المجلة توفّر مقالاتها بنسخة إلكترونية ووجدت المقال متوفّرًا (لقراءة المقال اضغط هنا). وأشد ما أثار إعجابي في المقال هو الربط بين معنى الجمال والصورة حين قالت:

" لقد كان دافع الناس لالتقاط الصور هو العثور على شيءٍ جميل، وقد لعبت الكاميرا دورًا ناجحًا في تجميل العالم، وصارت الصور الفوتوغرافية مقياساً للجَمَال أكثر من العالم نفسه. لقد تعلَّمنا أن ننظر إلى أنفسنا فوتوغرافياً، وأن نرى أنفسنا جذابين. فالصورة تخلق الجَمَال الذي نبحث عنه. وانطلاقاً من ذلك، فقد سجّل فوكس تالبوت اختراعه للصورة الفوتوغرافية في العام 1841م تحت اسم (Calotype) المشتقّة من الكلمة الإغريقية (Kalos) التي تعني “جميل”! "

هذا الربط بين الصورة والجمال أوحى إليّ بربط مواقف أخرى تأخذ الجمال في منحى آخر، ألا وهو منحى الصورة المجسّدة للجمال أو النموذج الجمالي، والذي يُحكَم عليه وفق معايير معيّنة، فمعنى الصورة والجمال يمكن استيعابه من جانبين. قد تكون الصورة مؤطَّرة (لها أطر) لتنبثق منها الجماليّات وتنتشر في أفق أوسع من تلك الأطر، وقد تكون الصورة مؤطِّرة (تضع أطر) للجمال نفسه لتشكيل محدوديّة الجمال. ومن هنا ظهرت الثورة على الجمال، ذلك الجمال المؤطّر بين أطر محدودة المعايير لتنأى كل البُعد عن الجمال الحقيقي والحسّي الذي ينعش كوامن الروح.


الثورة على الجمال:

إن أخذ الجمال من منظور محدود ذو أُطر ومعايير معيّنة يظلم الجمال ويطعنه في خاصرة المعنى التي يولد ويتجلّى من خلالها، ومن المؤسف أن وضع الجمال في معايير محدودة ونشر وتعميم وتأكيد تلك المعايير من شأنه أن يُحدث ثورة ممن لا يمتلكون هذه المعايير، كونهم يندّدون بظلم معايير وكوامن الجمال الأخرى التي يمتلكونها والتي قد لا تتفق مع معايير الفئة المقابلة وينادون بأن ذلك لا يعني عدم امتلاكهم للجمال، فلقد قلنا ونكرر القول، بأن خالق الكون قد وهبه الجمال ووهب كل من فيه جمالًا بصور ومعايير مختلفة. والمعنى يتجلّى بشكل كبير في معايير الجمال الجسدي الشائعة في عصرنا الحالي ومعايير الجمال الشكلي في المسكن والمأكل والمظهر! إن تلك الثورة التي يقيمها من يؤمنون بالجمال من ناحية عميقة لا شكليّة تتجسّد في مطالبات عدّة تتضمّن نقد المعايير السائدة وتأييد مبدأ رؤية الجمال من منظور شعوري وحسّي فردي بالدرجة الأولى وقائم على التجربة والاقتناع وإدراك كوامن النفس وما تحتاج إليه سواء في تحديد نمط مظهرها أو نمط وبيئة معيشتها أو حتى اختيارها لشريكها!

ومن أجمل المبادرات التي وثّقت هذا الاعتراض ونادت بمبدأ كسر معايير الجمال السائدة هي كلمة الجميلة بتول العنزي في منصة تيدكس تحت عنوان (هل نحن رهائن؟)، والتي انطلقت من رغبتها في الحديث عن طبيعتها البسيطة وامتلاكها للشفة الأرنبيّة (شق الشفة والحنك) والانتقال إلى موقف تعرضها للتنمر وأخيرًا الحديث عما دفع هؤلاء المتنمرون للتنمر عليه، أو ما دفعنا جميعًا للحكم بشكل تلقائي على كل فرد من حيث مستوى جماله، ثقافته، بل حتى ذوقه. حيث يكمن الدافع في قياسنا جماليّة الفرد حسب معايير الجمال السائدة (رغمًا عنا) مما جعلنا كالرهائن لتلك المعايير. تسلسل أفكار بتول في كلمتها ونبرتها وجديّة طرحها أوصلت الرسالة بشكل اقشعر له بدني.

مبادرة بتول مبادرة توعوية رائعة من شأنها أن تحدث التغيير للتريث وإعطاء كل فرد فرصتة لإثبات جماليّاته الكامنة بطريقته بدلًا من فرض معايير الجماليات الهشة عليه والتي قد تؤدي إلى رفضه مجتمعيًّا أو رفضه هو للمجتمع في حال تعارضه معها. وثمة مبادرات أخرى تنم عن رفض أشد قسوة كإنشاء الأحزاب والنوادي التي لا ترفض معايير الجمال السائدة وحسب بل ترفع الراية للقبح والأشخاص الغير جميلين (ولا أحب هذا المصطلح أبدًا، فأنا والله أرى في كل شخص جمال، نعم جمال حقيقي يجعلني أتأمّله، وليس مجاملة). 

وفي هذا السياق نجد أقرب مثال يجسّد هذا النوع من الثائرين هو نادي القبح (Club Dei Brutti) في بلدة بيوبكو الإيطالية. تقول مجلة القافلة في مقال " نادي القبح! لإنصاف جَمَال الروح" تجدونه (هنا) بأن هذا النادي أُنشئ في الأصل لتقديم خدمة التوفيق الزوجي لشابات البلدة العازبات اللواتي لم يكنَّ على مستوى معيَّن من الجَمَال، ومن ثم تطور للاحتفاء بالبشاعة بالمطلق. وبغض النظر عن ممارسات هذا النادي، ربما ننظر لهذه الفكرة بشيء من التعجب، لكن لا عجب في زمن طغى وتجبّر فيه المنادون بالأزياء والتجميل والمظاهر بغزارة طفحت بنفوس الرافضين الماقتين لهذا الاقتحام المتجاوز الحد. وبذكر الغزارة، أترككم مع مقال قصير وبديع للمدوّنة نورة المحسن تحت عنوان الجمال الغزير (تجدونه هنا).

إن لم نكن نمتلك القدرة على تذوق الجمال فطريًّا، فإنه بإمكاننا اكتسابها وممارستها يوميًّا. اترك لنفسك المجال، دعها تسبح في عالم الجمال، دع عينك تنظر أبعد مما تنظر إليه، وتشعر أبعد مما يشعر به جسدك من ألم أو لذّة أو نشوة. إن استوقفتك نظرة، فقف واستلهمها، وإن حبستك فكرة، فأمهلها وأنصت إليها، وإن وددت قول كلمة لطيفة فأطلقها، وإن كانت نفسك صامتة وسائمة فحدّثها، ومكّن كل شعور يخلق فيك معنى أسمى من المعنى المحدود ليفيض بك ويغمر السدود. حينها ستدرك جماليّات تضاهي في تفجرّها بداخلك كل تلك المادّة والواقع والحدود القانونيّة المحيطة بك. فالجماليّات الحياتيّة حق من حقوقك، أي أن لك الحق في إدراكها مهما كان العالم يحجبها عنك بظروفه أو صراعاته، ولك الحق في الاعتراف بها والعيش معها وممارستها اختيارًا أو اضرارًا، حين لا تجد في مأواك مأوى، أو في حزنك سلوى، ولك الحق أن تمارسها في طبيعتك وسكونك وطمأنينتك. ومن المؤسف ألا يُدرك الجمال إلا كنقيض للقبح، أو كمرادف للسائد، بينما لا يحتاج لإدراكه قبحًا ولا معايير، فقدرة تذوّق الجمال هي في كسر المألوف والتناغم مع الصمت والرقص في السكون والإيمان بالتغيير.


تعليقات

  1. تدوينة جممممميلة كجمالك 🤩💛💛

    ردحذف
    الردود
    1. شكرًا سارة غمرتيني بجمالك والله!

      حذف
  2. تدوينة جميلة جدًا أعجبني أسلوبك وكلماتك. أسعدك ربي يابشرى

    ردحذف
    الردود
    1. شكرًا أسماء لجمال إطرائك، وأسعدك يارب 3>

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني