واحفظ الإنسان













إلى من نلجأ في مكان يكتظ بالزحام، من أين نستسقي ضمائر الإنسان، فالسماء لم تمطر منذ مدة، والأرض ترفع الضمائر في كل يوم للسماء ذاتها، ونحن نستجدي ممن بقوا أن يُبقوا على إنسانيّتهم في أمان. أين الملاذ الذي نستريح فيه من وعثاء الهلَكة الروحية، والمآسي الإنسانيّة، فالجوف مزدحمٌ بالحقيقة، والظاهر محاصرٌ بها، والسماء لم تمطر منذ مدّة حقيقةً بيضاء، تجلي ما نظنّه اليوم وهمًا من فرط هزليّته ليجري في مجرى النسيان. من للإنسان بعد الإنسان؟ ماذا بعد انتهاك حُرمته، ماذا بعد الحرب لأجل الحرب لا لأجل السلام، ماذا بعد أن يُغتال الضمير ويمشي كلٌّ منا كالضرير، فحدودنا الجغرافية تفصل صدورنا عن بعضها، وتقطّع أوصال عروقنا المعنويّة، لتظل الكلمة مخنوقة في الجو، وتصل إلى أحدهم في حالة احتضارٍ أقرب للنهاية، فتنتهي قبل أن تبث شعورها في أنفاسه. كم نحن بعيدون جدًّا بقدر اقترابنا جدًّا، كم نحن منغلقون، بقدر النوافذ المشرّعة، وكم نبدو مكترثين بقدر عدم اكتراثنا. فأقصى ما نتمنّاه هو ألا نُلام، كون الأمر لا يعنينا، فمجرد الخوض فيه قد يقصف أمانينا، ونسينا بأن تلك السماء التي تغطينا جميعًا تحتها هي ذات السماء، والشمس التي تشرق علينا هي ذات الشمس والقمر الذي نسمر تحت نوره هو ذات القمر، والأرض المستديرة التي تحتضننا هي ذات الأرض، والرب الذي خلقنا جميعًا هو الرب الواحد الأحد.

تغرب الشمس، وينزوي القمر، وتكفهر السماء، وتغفو الأرض، ونصحوا في ساعات متأخرة باحثين عن ملجأ نأوي إليه في حضرة تلك الطبيعة الخالدة للسبات، فلا نجد سوى نور الله. ذلك النور الذي إن بُسط في جوف أحدهم أحاله جنّة وسط الرماد، وضياءًا وسط العتمة، وطمأنينةً وسط الخوف، وسكينة وسط الصخب. فنوره لا يُطفأ، ورسلهُ لا يقطعون زياراتهم رغم كل الحجب التي نبصرها، وتلك التي لا نبصرها، ووحيه لا يُمنع، مهما نأت بنا الأرض، أو باعدت بيننا وبينه السماء.

أيّ الله، في تلك الأنوار اغمرنا، واشفي جراحاتنا وجراحات كل أنين تسمعه وقد لا نسمعه، ولمّ شعث نفير الأنفس التائهة، الباحثة عن أرواحها، واغسل الدماء بالماء، وأنطق الصمت بالدعاء، وهزّ الجمود بالرجاء، وأشعل بوحيك فينا سُرجَ السلامة، وكن لنا، لا علينا، فمن لضمائرنا إن خانتها ضمائرها، ومن لسرائرنا إن كُتمت في أسرارها، ومن لنا إن خلّي بيننا وبيننا، وضاعت كلماتنا في المدى، متشبّثةً بقطرات الندى، وأغصانِ الياسمين، وتغاريد العصافير، وأسوار البساتين. أنتَ الملاذ، وعليك جلّ الاعتماد، فقنا شر الزمان والمكان، واحفظ لنا الإنسان، واحفظ لنا الإنسان.


تعليقات

  1. الردود
    1. وأنتِ تسعديني دائمًا بنورك وحضورك!

      حذف
  2. كتابتك عميقققققة جداً 💛

    ردحذف
    الردود
    1. لا يدرك عمق المعنى إلا من لديه حس عميق مثلك، شكرًا 3>

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني