طبيب الغلابة وثمن الإنسان



أثناء تصفحي لهاتفي مساء اليوم شاهدت خبر وفاة دكتور مصري يدعى محمد مشالي الملقّب بـ" طبيب الغلابة"، لم أعرفه مسبقًا لكن قصته استوقفتني وأدركت بعدها سبب انتشار خبر وفاته رحمه الله تعالى. دكتور محمد مشالي هو دكتور مصري، تخرج من كلية الطب ليعمل طبيبًا في الوحدات الريفيّة في مصر مؤمنًا بمبدأ "الطب مهنة إنسانيّة وليست تجارة". وكانت بدايات عطائه الإنساني ردة فعل لموقف تعرض له الدكتور مع طفل فقير. وهو طفل يعاني من داء السكري فضلًا عن الفقر المدقع الذي كانت تعانيه أسرته. ففي إحدى الأيام التي احتاج فيها هذا الطفل لحقنة الأونسولين وأعياه التعب، توجه لأمه مستغيثًا لتوفير حقنة له. لكن أمه لم تجد حيلة لأجل إغاثته لأنها باختصار لو اشترت له الحقنة سيموت إخوته جوعًا. فهرع الطفل لإحراق نفسه معترفًا لوالدته بأنه سيخلصها من حاجتها لصرفية دوائه. وكان الدكتور محمد هو الطبيب الذي استغاثت به الأسرة لإنقاذ الطفل من الحرق ولكن الطفل فارق الحياة في حضن الدكتور لأن قدر الموت كان أسرع من لهفة دكتور محمد لإحياء هذا الطفل. هذه الحادثة أثرت في الدكتور أيّما تأثير، وجعلته يصر على أن يشرّع أبواب عيادته وسط الأحياء الفقيرة ليكون قريبًا من الفقراء وملجأ للمساكين بجنيهات معدودة ابتدأت بخمسة جنيهات ووصلت إلى العشرة كحد أقصى أي ما يعادل ريالين فقط. تلك العيادة الضيقة والتي بالكاد تضم مكتب الطبيب وسريرًا جانبي، لكنها تتسع لكل قلب إنساني يجد فيها ملجأ ومأوى وسكن من أوجاعه الجسدية وأوجاعه المجتمعية التي تظل تهدده بسياط الطبقيّة والمادّة والمال.

    الدكتور محمد رحمه الله وسط عيادته 



توالت المقاطع التي تنقلت خلالها لأتعرف على هذا النموذج الإنساني العظيم، تغطيات العزاء والدفن وردود فعل الأهل والأقرباء وكل الناس الذين خالطوا الدكتور وطالتهم أيدي عطائه، ومقاطع مقابلاته المؤثرة جدًا. فدكتور محمد رحمه الله لم يكن يقبل إجراء مقابلات تعطّل روّاد عيادته من المرضى، وحتى إن أجرى مقابلاته، أراه يتحدث على عجالة وببراءة خالصة تنساب من بين شفتيه كطفل شديد الإخلاص عميق الإنسانية غزير الطيبة ترغم المذيع على التبسّم طواعية. ورغم حضور ذهنه في الإجابات وفصاحة ردوده إلا أنه كان عجولًا، لا يفضل إضاعة الوقت، لأن يومه كان كله للعيادة، ساعة بعد ساعة، مما أثار فضولي عن تلك الهمّة! هنا إحدى مقابلاته القصيرة..


أذهلتني همته في الحقيقة حتى مع تقدم سنة وبلوغ 76 سنة، همة عجيبة ومحط تفكّر، تلك الهمّة في نذر الحياة للإنسان، بل اعتبارها هي الحياة، كما عاشها الدكتور محمد الذي يعيد ويكرر في تصريحاته بأن حياته التي نذرها للعطاء الإنساني والفقراء هي حياة تشعره بالغنى، والعجب أنه يرى بأن الحياة أعطته أكثر مما يستحق كما يقول. وقد قصمني تأثّرًا حين استشهد في إحدى مقابلاته بمقولة "ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط"، مؤكدًا على مبدأه بأن البذل لأجل الإبقاء على حياة إنسان هو أهم من أي شيء آخر.

موت الإنسانيين خلود، وأي فعل إنساني سيُكتب له الخلود، فهنيئًا لهذا الطبيب الذي عالج مرضاه وعالج مفاهيمنا وأفكارنا المعطوبة حول الحياة والمهنة وقدر الفقراء قدرهم، وأثبت لنا بأن حب الفقراء رزق، كما ورد في الحديث الشريف الذي فيما معناه: "وأسألك حب المساكين". نعم، حب المساكين رزق، يرق به القلب، ويحث النفس على الجود والإخلاص، لدرجة رفض الدكتور محمد رحمه الله مبالغ جمّا في سبيل بقائه في هذه العيادة المتواضعة التي تحقق الفائدة وتلبّي الحاجة والمساعدة المرجوّه لفقراء الحيّ. وعزاؤنا في رحيل الدكتور محمد مشالي هو ذلك النبض الذي ضخّه في كل روح كانت لتصبح جثثًا تحت أنقاض الداء لأنها فقط لا تملك ثمن الدواء.

تعليقات

  1. الله يرحمه و يسكنه فسيح جنَّاته 💔

    ردحذف
    الردود
    1. اللهم آمين وجميع موتى المسلمين..

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني