الإنسانيّة والخلود ..
الليلة
الماضية شعرت برغبة مشاهدة فيلم ملهم دون توصية سابقة أو انطباع مُسبق، وحبذا أن
يتناسب مع مزاجي الحالي المائل إلى الهدوء وأحداث قصة انسيابية دون تعقيدات أو
حوارات متشابكة تستدعي حضور ذهني عالي. وكعادتي، حين تداهمني هذه الرغبة المُرهقة،
فإن تصفح الأفلام للبحث عن الرغبة المنشودة قد يستغرق مني وقت أطول من الفيلم نفسه
الذي سيقع عليه الاختيار ^^ لكنني في هذه المرة ولحسن الحظ بمجرد فتحي لصفحة
الأفلام وجدت الفيلم المنشود في مقدمة الصفحة. وجدت فيلم يُدعى "عن
الخلود" (About Endlessness)
مذيّل بوصف مختصر: "يضيف روي أندرسون إلى عالمه السينمائي بتفكيره حول الحياة
الإنسانية بكل جمالها ووحشيتها وبريقها في عن الخلود About
Endlessness". كمعنى، لامس التوجّه ذائقتي، بقي
لدينا عقدة الرضا عن الإخراج والجو الشاعري الذي يجب أن يلبي الرغبة الطاغية. توجهت
لمشاهدة النبذة عن الفيلم، فاستوقفتني صورة المشاهد الفريدة، واتجهت أخيرًا
لمشاهدته.
يدور
الفيلم حول المواقف اللامنتهية أو الخالدة في حياتنا الإنسانية، ويجسّد الشعور فيها
بطريقة مؤثرة، مع العبور ضمن مختلف الطبقات المجتمعية والأعمار والقضايا الكبرى،
أو الأمور التافهة، في مشاهد غير مترابطة، وأشخاص متفرقين. أثرت بي تفاصيل المشاهد، شعور الأشخاص فيها، عمق الأصوات
وتدرّجها. كمشهد رجل حزين يجلس في مكان عام بقدمين مبتورتين بفعل الألغام ليقوم
بعزف مقطوعة ألحانها أشبه بالأنين، بينما تتخللها أصوات خطوات الناس الرتيبة من حوله والغير
آبهة، وهنا تحديدًا قد تتمكن من الإنصات للوجود الإنساني الذي قد لا يشعر به كل ضمير. في المقابل،
تجدك في مشهد آخر وسط مجمع تجاري أمام معضلة امرأة قد نراها تافهة، حين تقف في
حيرة وقد كسر كعب حذاؤها، وتغدو في ضائقة من الإحراج.
أكثر
ما أثر بي، هو عمق الشعور في المواقف الخاصّة بالقس الذي فقد إيمانه، وذلك بتجسيد
رهبة شعوره تجاه فقده لذلك الإيمان، وإحساسه بالتوجّس من ذلك التناقض الذي يعيش
فيه حين يستمر في القيام بطقوس الكنيسة الدينية تجاه مرتاديها للحفاظ على مصدر
رزقه كقس. مما اضطره إلى زيارة طبيب نفسي.
كان مشهد الطبيب النفسي محاطًا بالدفئ، فالطبيب ينصت للقس، ويطرح عليه الأسئلة
التي تلامس مأساته. لكن العمق التأثيري يكمن في المشهد التالي، حين قدم القس
للطبيب النفسي في موعد آخر باكيًا شاكيًا دون أن يدرك وقت انتهاء دوام العيادة،
فيظهر الطبيب للقس (بصورة تناقض لطفه في الموعد السابق) رافضًا استقباله بحجة
انتهاء الوقت، ويقوم برفقة موظفة الإستقبال في العيادة بطرد القس خارجًا. حينها نرى كيف
للإنسانية أن تنتهي بانتهاء وقت العمل (موقف الطبيب تجاه القس)، وكيف للإنسانية أن
تستمر من أجل العمل (موقف القس تجاه وظيفته بالرغم مما يعانيه).
القس يصارع همومه وهو يستعد للظهور لفئة من المصلين الذين ينتظرونه
مشاهد
الفيلم كانت متذبذة، عميقة، وبعضها سطحية، لم أفهم بالتحديد المغزى من هذا
التفاوت، ولم أصل لخاتمة صريحة عند إنهاء الفيلم، بل لتساؤلات كثيرة، حول مغزى
المخرج، وإطار المعنى المنشود. لذلك توجهت لقراءة مقالات أجنبية عنه، وأحببت جدًا
طريقة تفسير الفيلم في منظور سينمائي إنساني كشف الستار عن تساؤلاتي السابقة. قرأت
مقالة لأحدهم عن الفيلم ضمن صفحة (The Guardian)، يقول فيها:
Andersson isn’t exactly asking us to laugh at or pity these people. Instead, we’re being encouraged to wonder at their predicament – and perhaps relate it to our own
ويعني
أن مخرج الفيلم لا يطلب منا كمشاهدين أن نؤطّر شعورنا بالتحديد تجاه تلك المَشاهد، كأن نضحك
على مواقف هؤلاء الناس أو أن نشفق عليهم. بل بدلاً من ذلك، المخرج يدفعنا إلى التساؤل حول
مأزقهم الإنساني في موقفهم الراهن - وربما يدعونا بذلك إلى ربط شعورهم بشعورنا
الإنساني وتفكيرنا بمأزقنا نحن.
ومع ازدياد فضولي، قمت بالبحث عن التقنية المستخدمة في تصوير المشاهد لتجعلها كاللوح الفنية. وجدت أن التقنية المستخدمة في الفيلم تدعى " الترمبلوي"
أو " Trompe-l'œil". وكما قرأت عنا فهي تقنية للرسم الفني الذي يشبه الخداع البصري
وقد استخدمت في اليونان القديمة في روما، والتي تكمن في رسم خلفيَّة على حائط وتبدو
وكأنها حقيقية وذلك لإعطاء انطباع زائف بأن المكان أكبر حجمًا مما هو عليه في
الواقع. أرى أنها تقنية موفقة لإخراج فيلم في مثل هذا التوجّه الدرامي الآسر. أترككم
مع صور أذهلتني من مشاهد الفيلم قبل وبعد الكواليس:
*اضغط على الصورة لمشاهدتها بدقة عالية.
هنا مقطع يوضح كواليس مشهد تعطل السيارة ويعرض المشهد النهائي في الأخير:
الفيلم
كان لمسة هادئة وعميقة في آن واحد، ينقلك بين مشاهد غير مترابطة كحكاية، لكنها
تتوحد في إيصال رسالة واحدة، ألا وهي الوجود الإنساني في المشاهد، أبعاده،
ماهيّته، وحشيته، كماله، بشاعته، أو جماليته. ما شدني في الفيلم هو أن كل مشهد
حكاية وشخصيات مختلفة. وقد يشدّك في الوهلة الأولى لشخصيات معيّنة في المشهد، وتظن
بأن الأحداث سوف تدور حولها، لكنه يفاجئك بشخصيات هامشيّة، تمسك زمام القصة، وتثبت
وجودها أخيرًا. وكأنه يعني بأن المعنى الإنساني قد لا يظهر في اللحظة الأولى، أو بفعل الأشخاص البارزين، بل
بعد انتهاء الحكاية، وبطريقة ضمنية، ليخلد حتى النهاية. كما شدني في تلك المشاهد، شحوب بشرة
الشخصيات وحركتها البطيئة والتي تبدو كالأشباح، وهدوء الألوان، والأماكن التي تبدو
كلوحة من فرط التجريد، وتلك الحوارات القصيرة جدًا، وترك بقية المشهد للصمت، ليكون الحضور،
جل الحضور، في المعنى، والوجود الإنساني. وكأن المخرج يريد أن يرغمك على تهميش كل
التفاصيل، والتركيز فقط على العمق الإنساني، والذي يجبرك أنت (بفعل المشهد المبهم
والصامت) على استنباط المعنى، وتفسيره قياسًا على إنسانيّتك أنت، (وهنا الرعب الذي
يكمن في قياس مدى إنسانيّتك كفرد).
عن
الخلود، هذا الاسم بالتحديد يضعك في دائرة من التفسيرات، فقد يعني بأن الشعور
الإنساني هو ما يُخلّد في داخلنا في جل المواقف العابرة، أو يشير إلى أن فناء واختفاء المكان
لا يعني فناء حكايات عشّاقه أو من كانوا يسكنون فيه، أو يرمي إلى أن الإنسانيّة عادلة،
فقضيتها تقوم بمساواة جميع البشر، في كل المواقف، وهنا أجد وصف المخرج دقيقًا حين
قال في صفحته (royandersson) عن الفيلم:
Inconsequential moments take on the same significance as historical events: a couple floats over a war-torn Cologne; on the way to a birthday party, a father stops to tie his daughter’s shoelaces in the pouring rain; teenage girls dance outside a cafe; a defeated army marches to a prisoner of war camp
ويعني
أن اللحظات الغير مهمة أو التافهة تأخذ نفس أهمية الأحداث التاريخية (في ميزان
الخلود الإنساني): كتصوير زوجان يطفوان فوق مدينة كولونيا الجميلة التي تبدو مدمّرة
بعد أن مزقتها الحرب. في المقابل، تصوير لحظة توقّف الأب عن السير لربط أربطة حذاء
ابنته في المطر الغزير أثناء توجههم لحفلة.
أدركت
أن الإنسانية شيء ضمني، غائر في العمق، قد لا يراه الجميع، سوى من لديهم ضمير مخلص
للإنسان. فالإنسانية لا تكون دائمًا سيّدة الموقف، وقد لا تكون بفعل الشخصيات
المتصدّرة، بل بالشخصيات المنزوية، سواء أكانت في جانب الإنسانيّة الخيّر،ومن يقدّمون الإنسان
أولاً في أفعالهم، أو الجانب الوحشي، ومن يكيدون المكائد للإنسانية تحت أسماء
وألقاب ينزوون خلفها. في الحقيقة، لم أقاوم فيض شعوري الذي قيّدته كتابيًّا بجمل
من وحي تأليفي أثناء مشاهدتي للفيلم، وذلك على غلاف كتاب كان على مقربة منّي، ولا
أعلم لماذا دوّنت الشعور بالإنجليزية.
It's
all about humanity:
When
humanity ends with the end of our job!
When humanity
ends with the end of our relationships..
When humanity hides behind our social limitations..
When humanity hides behind our social limitations..
When humanity
remains just for our alive soul..
When humanity
founded lately..
The real
humanity story begins after the ends..
Just
look at humanity when your provided service didn't fit your preferences..
Not
always the clearest things in front of us are matter..
Humanity
is the core, no color, no details, no noise..
كل ما
يعنينا هنا هو الإنسانيّة:
عندما
تنتهي الإنسانيّة بانتهاء وظائفنا..
عندما
تنتهي الإنسانيّة بانتهاء علاقاتنا..
عندما تختبئ الإنسانية خلف حدودنا الاجتماعية..
عندما تختبئ الإنسانية خلف حدودنا الاجتماعية..
عندما
تبقى الإنسانية فقط لأجل روحنا النابضة..
عندما
توجَد الإنسانيّة متأخّرًا..
حكاية
الإنسانية تبدأ فيما بعد النهايات..
عندما
تُقدّم لك خدمة ما، ولم تحز على إرضائك، فقط انظر للجانب الإنساني فيمن قدّمها لك..
الأشياء
البارزة أمامنا ليست دائمًا ما ينطوي عليها جوهر الأمر..
الإنسانية
هي الجوهر، لا لون، لا تفاصيل، لا صخب..
تعليقات
إرسال تعليق