المشي وحيدًا في شوارع نيويورك



في مطلع فبراير الماضي كنت أقرأ كتاب المدينة الوحيدة لأوليفيا لاينغ، لم تكن لدي أي معرفة مسبقة بالكتاب وكان لقائي الأوّل به في مكتبة جرير حين كنت منهمكة في العثور على كتب قائمتي التي جئت لاقتنائها، وبمجرد انتهائي هممت بالخروج من متاهة الأرفف والتوجّه إلى المحاسبة، لكنني وبصدفة محضة التفت لأجد المدينة الوحيدة تتربع وسط أحد الأرفف وتلك الشمس المتوهّجة بألوانها الثلاث تغريني لالتقاطها، عدت مسرعة لاقتناء الكتاب (فقد صرت أثق بالإلهام والانجذاب من أوّل صدفة تجاه الكتب بعد تجربة ناجحة للحدس المفاجئ وغير المسبق مع كتاب رائحة المكان). في الحقيقة لم أكن نادمة لقراءتي هذا الكتاب فقد كشف لي عن أمور عميقة تختبئ وراء مصطلح الوحدة وحقائق كثيرة تتنكّر وراء المشاعر والتجارب الإنسانيّة.


لم يكن الكتاب كتاب علمي بل هو أقرب ما يكون لتجربة شخصية لمؤلفته أوليفيا لاينغ والتي قررت الانتقال من موطنها في لندن لتعيش في مدينة نيويورك للبقاء مع شريكها، لكنّ علاقتهما لم تستمر، فقد تركها شريكها راحلاً خارج المدينة لتبقى هي في مواجهة مدينتها الجديدة ووحدتها الجديدة معًا بعد علاقة باءت بالفشل. كانت تجربتها ممزوجة بالتناقض، فقد كانت تشعر بأنّها غريبة وسط هذه المدينة المزدحمة وبأنّها لا تعني لأحد ما هنا شيئًا كبيرًا، وبأنها تبدو شاذة ووحيدة وسط كومة من الأزواج والعائلات، وفي ذات الوقت أحست بالانتماء لهذه المدينة وبالرغبة في البقاء، خاصّة أنها وجدت في تلك المدينة في ذلك الحين من القرن الماضي ما يجذب شغفها من فنون بصريّة قد تجيب عن تساؤلاتها الفلسفيّة عن الوحدة، والتي بدأت تتوالد بداخلها بحرقة وبحاجة ماسّة للإخماد بإجابات شافية.

"ماذا يعني أن نكون وحيدين؟ كيف بإمكاننا العيش إن لم نكن على اقتراب حميم بإنسان آخر؟ كيف بإمكاننا أن نتصل بالآخرين، خاصة إن كنا نواجه صعوبة في الحديث معهم؟ "

اتجهت أوليفيا لتأليف الكتاب كمحصّلة لرحلة استشفاء طويلة خاضتها عبر التعرف على معنى الوحدة وعلاجها من خلال الغوص في سير شخصيّات عانت من الوحدة. ولأنها كانت كثيرة التأمل في اللوح والرسومات والفنون في فترة تواجدها في نيويورك، خاصة تلك الفنون التي تلامس معنى الوحدة، فقد قادها ذلك الفضول إلى الاطلاع على السير الشخصية لمن قاموا بإنتاج تلك الفنون من أصحاب الفنون البصريّة في نيويورك، لتكتشف كيف كانت معاناتهم مع الوحدة وكيف قاموا بترجمتها لتلك الأعمال كإدوارد هوبر و آندي وارهول وهنري دارجر وديفيد وونناروفيتش. 


*لوحة( Nighthawks) لإدوارد هوبر تجسد جانب الوحدة بالتقارب المتباعد*


لفتني جدًّا تعريف الوحدة في الكتاب والحديث عنها بطريقة انسيابيّة وعميقة في نفس الوقت لتجعل مفهومها جليًّا وشفّافاً. فقد عرّفت أوليفيا الوحدة بأنه شعور صعب التصنيف نظير صعوبة اعتراف الإنسان به. وذلك لأن الوحدة بإمكانها أن تكون صفة غائرة في طبيعة الإنسان، أو صفة عابرة في مرحلة ما نتيجة لظروف خارجيّة كالتجارب الاجتماعية أو الصحيّة. لتؤثر في نهاية المطاف على الشخص وعلى حالاته الاجتماعية وتعاطيه معها. أدهشتني إحدى صفحات الكتاب حين ربطت وحدة الشخص بقدرته على التفاعلات الاجتماعية وفهمه لتفسيرات الآخرين.
"عندما يدخل الفرد في تجربة الوحدة، فإنه يستدعي ما يُسميه علماء النفس باليقظة المفرطة تجاه المخاطر الاجتماعيّة. هذه الظاهرة التي اقترحها فايس لأول مرة في سبعينات القرن الماضي. وفي هذه الحالة، التي يدخل إليها الفرد دون علم منه، يبدأ بخوض تجاربه في العالم بطريقة سلبية متصاعدة، ويكون مستعدًّا لتوقع وتذكر حالات الوقاحة التي يتم التعامل بها معه، ويمنح هذه الحالات أكبر من وزنها بكثير، ويتجاهل التصرفات اللطيفة التي يتم استقباله بها، ولا يضعها باعتباره. يصبح الفرد الوحيد في هذه المرحلة أكثر عزلة وشك وابتعاد عن الآخرين. وبسبب أن هذه "اليقظة المفرطة" لم يتم تحديدها بشكل واع، فإنه من الصعب جدًا إدراك هذه النزعة أو تصحيحها."
هذا التعريف لليقظة المفرطة ينطبق تمامًا على بطل فيلم قديم يدعى free willy"" والذي تدور حكايته حول صبي يقوم بإنقاذ دولفين من الموت. الجدير بالذكر أن الصبي جيسي كان مجهول الوالدين ويعاني من وحدة مؤلمة قادته لتصرّفات منحرفة كالسرقة والتخريب. وحين تبنّته إحدى الأسر وأغدقت عليه العطف، رفض تلقائيًا ممارسات اللطف عليه، فقد كان يشعر بالشك حيال تلك المشاعر اللطيفة والنفور من أحكام الآخرين عليه بأنه وحيد ويستحق الشفقة والرحمة. في حين أنه وجد الشعور بالألفة تجاه دولفين، لأنه في نظر جيسي قد يمتلك مالا يمتلكه البشر من قرب حميمي صادق يخلو من تصوّرات محدودة ومؤذية.


*بطل فيلم (free willy) برفقة صديقه الدولفين*

وفي ذات السياق، ذكرت أوليفيا في كتابها قصص مشابهة للفنانين وتجاربهم القاسية مع الوحدة. أثرت بي حكاية الفنان والكاتب هنري دارجر، والذي عانى من ظروف أسرية مريرة في طفولته تبعتها قسوة الملجأ الذي كان يقطن فيه، ليفر هارباً في حجرة تخصّه ليغوص في فنّه وعوالمه، متجنبًا صخب العالم ومواجهته للحرمان والوحدة والاضطراب، وليحاصر نفسه بتفاصيله التي تحول بينه وبين الرغبة في الألفة الإنسانيّة. إن التعرف على هؤلاء الفنّانين كأشخاص من وجهة نظر نفسية وفلسفيّة يكشف عن تفاصيل مؤلمة تناثرت عبر زفراتهم لتشكّل تلك الفنون التي أنتجوها. فقد أنتج هنري فنون عظيمة بالرغم من أنه لم يدرس الفن على الإطلاق، وكان يعيش على هامش المجتمع. لقد أثر بي عكوفه في حجرته وحيدًا، يضخ أفكاره الخياليّة وجل المعاني التي قد حُرم منها في الواقع. وظل على تلك العزلة فترات طوال، لم يكتشف أحد ما كان يعمل. لكن بعد فترة زمنية طويلة تم اكتشاف أعماله العظيمة في تلك الحجرة، فلم يكن يسعى إلى الشهرة، بل كان يسعى إلى ذاته. أدركت نيّته بعد أن أصابني الفضول للاستزادة عنه، فقمت بالبحث عنه في متصفحات الصور واليوتيوب، فصدمت من عدم وجود محتوى لمقابلات تخصه أو صور صحفيّة لشخصه. كان المحتوى المنتشر عنه أعماله، أعماله وحسب، وهذا هو الدليل الأكبر على انطوائه الذي سبق شهرته. كانت المحصّلة لذلك الانطواء والاعتكاف في حجرته إنتاج أطول عمل روائي باسمه تحت عنوان "عوالم الخيال" بجانب أعمال أخرى لمذكّراته الأكثر غرابة. هنا حجرة هنري المليئة بتجميعاته وأعماله كبيرة الحجم وغزيرة الصفحات. لاحظوا غزارة كتابه في الدقيقة الثالثة!


فهمت أوليفيا من خلال سيرة هنري وغيره من الفنّانين كيف يمكن لشخص وحيد أن يذوب في مدينة مزدحمة كنيويورك، لكي يأوي إلى رصيف أو ركن يلجأ إليه من معاناته المجتمعيّة المريرة. فالوحيدون يسعون إلى العزلة لخلق عوالمهم الخاصّة، وإيجاد قيمة لذواتهم في الجمادات كالكتب ومسجلات الصوت وآلات العزف وكاميرات التصوير والألوان. فتلك الأشياء لا يمكنها أن تطلق الأحكام عليهم، أو أن تنهش عواطفهم بالألم. وبإمكانها أن تسد جزء من احتياجاتهم العاطفية والإنسانية. حتى وإن اضطرّوا لبناء مجتمع مع أشخاص آخرين، فهم يفضلون تشكيله مع أشخاص يشاركونهم ذات المعاناة، والنظرة الحياتيّة. ففي تلك الحقبة الزمنية في نيويورك، أصبح ميدان التايمز مقر لتجمّع أغلب هؤلاء الأشخاص الوحيدين، لأنهم وجدوا في تلك الأرصفة زوايا تخصهم، وأشخاص يشبهونهم ليمارسوا معهم حيواتهم المختلفة، ويلطّخوا جدران ذلك الميدان بفنونهم الصارخة، وممارساتهم المتطرّفة التي تدفعهم نحو الشعور بالألفة والأمان، وقد تعرّضت تلك البقعة للعديد من المصادرات الأمنية لكثرة وقوع الجرائم والممارسات اللا أخلاقية فيها، وفي المقابل اعتبر هؤلاء الأشخاص الوحيدون ذلك الفعل إجحاف في حقهم مطالبين بحريّة اختيار سلوكياتهم وحياتهم ومجتمعاتهم.



*ميدان التايمز كما يبدو في عام 1980 مزدحمًا بالتفاصيل والحكايات البشرية*

وبعيدًا عن تلك الحقبة الماضية، ووقوفًا عند زمننا الحاضر، فإن التقنية اليوم أعظم مهرب للشخص الوحيد، والذي قد يغرق فيه دون دليل أو سبيل، فقط لإمكانية إخفاء وحدته بأقنعة افتراضية وملء الشعور بالتيه الداخلي بتيه أعظم شتاتًا. فتلك العوالم الافتراضية حين تساء زيارتها، تغدو أشبه بتيّارات تتقاذف المتلقّي دونما وجهة أو قرار، خاصة إن كان يعزم على التواجد فيها بغية الهروب لا أكثر. لقد وثقت أوليفيا ذلك المعنى في بداية شعورها بالوحدة، حين كانت تسيء التواجد في تلك العوالم، حيث تقول:
"كل يوم أستيقظ وقبل أن أفتح عيني بشكل كامل كنت أسحب جهازي المحمول إلى سريري وأتصفح تويتر. كان تويتر أول ما أتصفحه وآخر ما أتصفحه كل يوم، لأتجاوز بسرعة تغريدات من غرباء، مؤسسات، أصدقاء، هذا المجتمع سريع الزوال والذي كان حضوري فيه متقطّعًا ودون روح. أنتقل من أغلفة الكتب، إلى أخبار عن حوادث الموت، إلى صور لبعض المظاهرات، إلى افتتاح معرض فني، إلى أخبار اللاجئين في غابات مقدونيا، إلى هاشتاق مخجل، إلى هاشتاق كسول، إلى أخبار الاحتباس الحراري، وشاح ضائع: كمية هائلة من المعلومات، المشاعر والآراء التي تلقت مني أحيانًا اهتمامًا أكبر من أي شيء حقيقي في حياتي."
وهذا بالتحديد ما يدعو الشخص الذي يشعر بالوحدة إلى الهروب لهذا العالم، فبإمكانه هنا نسيان ذاته، وتشكيله الصورة التي يرغب بالظهور بها، والشعور بالألفة مع أصدقاء بعيدين ليحقق الأمان والحذر الداخلي الذي يخشاه في الواقع مع الآخرين.
"جزء من إغراء الشاشة هو أنها تخدم وبشكل خطر نسيانًا ممتعًا للذات في حالة أشبه بالاستلقاء على أريكة المعالج النفسي."
لا أنكر أنني كنت أشعر بشيء من القلق أثناء قراءتي للكتاب واكتشاف هذا القدر من المصارحات حول الوحدة، وذلك خوفًا من انطباق إحدى تلك المصارحات عليّ شخصيًّا، لكنني وقبل البدء ارتديت درعاً معنويًّا بكتابة جملة في صفحة الكتاب الأولى لهديل الحضيف رحمها الله: "ولم أكن يومًا وحدي يا الله وأنت معي". فكنت متيقنة من أن ما من بشر إلا وسوف يصادف ذلك الشعور في مرحلة ما من عمره، ولكنه سيختلف في تمدّده وسطوته وتغلّبه على الفرد. فالوحدة لا تعني كثرة الأشخاص من حولنا أو عدمهم، بل تنطوي على وجود من يفهمنا من الداخل بشكل عميق، ويشاركنا ذلك الشغف الداخلي بحب وبقرب. وفي حال عدم وجود مثل هؤلاء الأشخاص قد نصاب بالوحدة. وهذا هو المفهوم الخاطئ. فبإمكانك أن تدرك شعورك الداخلي وإن لم يدركه الآخرين أو يشاركونك إياه، ومع هذا بإمكانك أن تظل قريبًا منهم بدل الاعتزال والانعزال عنهم، وبإمكانك الاعتراف بفشلك أو غضبك أو ضعفك دونما خشية من أحكامهم أو ابتعادهم، حينها ستدرك قيمتك. الوحدة شعور طبيعي، ما إن يعترف به الشخص بينه وبين ذاته، حتى يتضح أمامه الطريق في أهدافه وسلوكياته وذاته العاطفية والمجتمعيّة. هنا كلام رائع اختتمت به أوليفيا كتابها وهو في نظري يختصر جلّ الكتاب:
"لا أؤمن أن علاج الوحدة يتمثل في العثور على حبيب، ليس بالضرورة. أعتقد أنه يتعلق بأمرين: تعلّم الطريقة التي يمكنك فيها أن تكون صديقًا لنفسك وفهمك أن العديد من الأشياء التي تبدو وكأنها ابتلاءات تعرضنا لها نحن كأفراد هي في الحقيقة نتيجة لقوى اجتماعية وسياسية أكبر منّا تتعمد فرض الشعور بالعار والإقصاء، والتي يمكن ويجب مقاومتها.""الوحدة ليست تجربة عديمة الفائدة، بل إنها تمثل اللب داخل ما نقدّره وما نحتاجه كبشر."
أنهيت الكتاب بوعي أكثر وشعور أكبر تجاه القوّة الذاتيّة، والتعزيز الداخلي، مع بقاء الاحتياج للآخرين في مستوى متوازن، يتيح لنا الأنس بهم، وعدم الاتكاء عليهم في كل شيء، كاستقامة حياتنا مثلاً !


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني