مودي وثرثرة حول الارتباط المُخلص



اعتدت أن أبحث طويلاً عن الأعمال السينمائية التي تستهويني مشاهدتها، فالانتقائية لديّ مرهقة، بالمناسبة لا أعتبر ذلك مثاليّة بقدر ما هو رغبة ذاتيّة لا أكثر في مشاهدة ما يلهم الشغف والروح حقًّا وبدرجة كافية تجعل من ذلك العمل المُشاهَد إضافة معنويّة لنفسي أو رسالة إنسانيّة (بغض النظر أحياناً عن كونه مرشّح أو عالمي أو عمل غير معروف أو اكتشفته شخصيًّا). قبل يومين كنت أبحث عن عمل ملهم لأشاهده، وجدت منشور ينصح بمشاهدة فيلم يُدعى مودي (Maudie) حول العلاقات المثالية، وحين اتجهت لمشاهدة المحتوى الإعلاني للفيلم، كان الانطباع ملهماً من الثواني الأولى، فاتجهت لمشاهدة الفيلم مباشرة قبل إنهاء المقطع الإعلاني دون أن أنتبه لحماستي، فقد لامستني رسالة الفيلم ونمط إخراجه.

يحكي الفيلم قصة امرأة تُدعى مودي تعاني من التهاب المفاصل، والذي لم يمنعها من خوض الحياة بطبيعيّة وممارسة هواية فن التلوين بعفويّة وثقة، مما شكّل منها امرأة ترى في نفسها شيئًا مميّزًا لا مشيناً أو مخجل. الجدير بالذكر هو أنّ مودي كانت تبحث عن استقلاليّتها عن أسرتها التي لم تعترف بها كإنسانة يُعتمَد عليها، وحين شقت طريقها في العمل كمساعدة لصيّاد يُدعى إيلفيرت، كان القدر بانتظارها، وارتبطت بذلك الصيّاد الذي يعتبر نقيضًا لشخصيّتها الوادعة والمحبّة للفن والهدوء، فقد كان غليظ الطبع، حاد الكلام، فوضويّ المعيشة. لكنّه وجد في مودي وجهًا آخر للحياة، حيث الهدوء والألوان والطهي اللذيذ، والأهم، وجد فيها الروح التي يسكن إليها بالرغم من أنها لم تكن فائقة الجمال بل وتعاني من ظرف صحّي (معيار الروح أولاً). وبالمقابل، وجدت مودي في ذلك الصيّاد ومنزله المتواضع عالماً دافعًا لها للعطاء والتحليق في سماء شغفها بالاستقلاليّة المالية والعاطفيّة. يصوّر الفيلم كيف لذلك الارتباط بين شخصين مختلفين أن يشكّل خامة متفرّدة من مزيج الحب والتعاطف والدعم والصدق في قالب متكامل تحت سقف ذلك الكوخ الريفي الذي جمعهما، وكيف لذلك الارتباط أن يمرّ ببعض العواصف بفعل شهرة مودي كفنّانة بينما ظل إيلفرت مجرّد صيّاد، لكن تلك العواصف لم تزد ارتباطهما إلا ثباتاً وتماسك بفعل المعايير الآنف ذكرها بين هذين الزوجين. 



أحببت الفيلم، وأحببت تصوير ذلك الارتباط في الفيلم بواقعيّة، لا تدعو إلى المثاليّة المحضة أو نقيضها، بل تقف في المنتصف حيال النفس البشريّة التي تكون في عرضة مستمرة للعواصف وتأرجح العواطف. كما أحببت طريقة المشاهد العميقة التي أوحت إليّ بإشارات تذكيريّة حول الارتباط الجميل والداعم للنفس مما دفعني إلى تقييد تلك الإشارات والتدوين عنها بإلهام.إن الحديث في أمر الارتباط يتشّعب بتشعّب اختلاف الشخصيات ووجهات النظر والتجارب الذاتيّة، لكنّ ثمة معاني عميقة تحيل نظرة الارتباط إلى معنى أسمى إن عبرت من خلال مصفاة تصحح وتنقّي بعض المفاهيم الشائبة والمتشابكة والتي تتمثّل في القبول والتقبّل والتآلف وإدراك نمط شخصيّة الآخر ومبدأ الاستغناء والدعم. فالتقبّل ينطوي على الموافقة الداخليّة لدى كلا الطرفين على الارتباط ببعضهما بعيدًا عن مبدأ الارتباط بالآخر بغرض ترميم حياتي الشخصية أو اتخاذه كأداة إصلاح أو العكس عن طريق اتخاذ الآخر كأداة معطوبة من شأني إصلاحها عبر هذا الارتباط. التقبّل ينطوي على إيمانك وراحتك في إقدامك على مشاركة حياة هذا الشخص كما هو، كما يظهر لك، لا كما تريد أنت! فرغبتنا في تغيير الآخر أو تحميله تكليف تغييرنا لا يجب أن يكون موجودًا كمحرّك أو دافع لنا للارتباط، بل إن الألفة والامتزاج في الحياة والاستلهام الذي سيقع بينهما كفيل لاحــقًا بخلق أو ترك أثر في نفس وطباع كل منهما لتحقيق التحسين الذاتي التلقائي الذي يتماشى مع الطاقة الاستيعابيّة لكل طرف. وبالرغم من أنني أشرت إلى التقبّل، لكنّني أرى أن هناك فارق بين أن تقبل وتتقبّل. فالقبول يكون في بادئ التعارف، ففي بدايات العلاقة تطفو مؤشرات استثنائيّة المعايير، مما يدفعك لتشكيل صورة نصفية حول الآخر، والتي تمكنّك من اتخاذ القرار وأن تقبل الارتباط به، أمّا التقبّل فأرى أن العيش تحت سقف واحد على مدى نسبي جدير بفهم أعمق للطرف الآخر وإكمال تلك الصورة مما يشكّل التقبّل، فما قبل تلك الفترة من تعارف وتشكيل مبدئي لنمط الآخر يتيح لك أن تقبل بالمعايير الأساسية، أما ما يلحق ذلك من تعايش يخلق التقبّل الذي يتيح لك توازن العلاقة الزوجية.

ومن المؤسف أن نرى العلاقة الزوجية تخضع لمفاهيم مشوّهة تفرض سطوتها على كلا الطرفين كالاستقلاليّة الذاتيّة الطاغية. ففي الحقيقة، وفي حال كان ارتباط الطرفين عميقاً إنسانيًّا وفكريًّا فسيفضي بهما إلى اعتراف كل منهما بفضل الآخر وبحاجته إلى دعمه، وهنا تذكّرت بالتحديد آية {ولا تنسوا الفضل بينكم}. فاستقلاليّة أيًّا منهما لا تعني سحق الآخر! لا يوجد استقلال ذاتي بحت، بغض النظر عن وجود فكرة الارتباط أو عدمها، فالإنسان بمجرّد كونه إنسان فهو يعيش في منظومة إنسانيّة متداخلة تحتم عليه التعرّض لفضل الآخرين ودعمهم حتى وإن لم يقم علاقات عميقة معهم، حتى وإن كان عابر سبيل قد ألهم بابتسامته شاعرًا ليكتب قصيدة خالدة، فذلك فضل من العابر على الشاعر، فكيف بمن يشاطرنا الحياة تحت سقف واحد. أحببت حوار إيلفرت ومودي بعد شهرتها، كانا يؤكدان فكرة عدم سحق الآخر بفعل الشهرة أو مستوى الجمال أو بغرض الاستقلاليّة بل يتجهان نحو الاعتراف بالفضل لإشعار كل منهما بقيمته الحقيقيّة.

في الحوار تشير مودي إلى إيلفرت بالنظر إلى الغيمة التي تشابه في هيئتها أي امرأة تمتلك جسدًا أجمل منها، لكن إيلفرت نفى هذه النظريّة بأفضليّة الجمال، وأشار بأنه يراها كما تبدوا، يراها كزوجته التي لا يريد منها أن تتركه لكونها غدت أفضل منه، فأجابت مودي بأنها لا يمكنها فعل ذلك، واعترفت بأنها قد حصلت على كل شيء تريده بمجرّد وجودها معه، وهنا تجلّى اعترافه بحاجته لها واعترافها هي كذلك.. مما شكل توازنًا وحبًا أعمق كما يصوّره المشهد:


الاعتراف بالحاجة للطرف الآخر (بدل مصارعتها ونفيها بحجّة الاستقلالية) والسماح له بدعمنا بطريقته الخاصّة النابعة من طباعه وشخصيّته معنى عظيم من شأنه أن يخلق التقاسم المتوازن للدعم. ومن هنا يمكنني الإشارة إلى الدعم على حدة، كوني أرى أن الدعم هدف من أهداف الارتباط. فدعمك للآخر لا يُحَد بمزاجيتك أو يقتصر على معاييرك الشخصيّة وما يحقق لك الرضى عن نفسك كداعم، بل إن الدعم الذي يجب أن تقدّمه للطرف الآخر هو ذلك الذي يحقق الدعم الفعلي والإنساني له والرضى في نفسه في كل ظروفه المتقلّبة من مشاكل شخصيّة أو امتيازات اجتماعيّة أو ظروف صحيّة وغيرها.

ألهمني الفيلم بأن بعض معايير نجاح الارتباط هي معايير ذاتيّة لا عالميّة أو مجتمعيّة قد شكّلتها حياة الآخرين، فقناعة الطرفين بمعايير علاقتهما الخاصّة هي جوهر استغناءهما واكتفاءهما ببعضهما، فالاستغناء قد يتحقق بالانسجام وصادق الاستجمام بأبسط التفاصيل التي تعني لهما الشيء الكثير، كمنزل ريفي، أو معدّات صيد، او علب ألوان ولوح بيضاء. في المقابل، قد نميل إلى كون الأفلام مجرّد أفلام، تجيد حياكة تلك المعاني بأبهى حلّة، لكنني أؤمن تمام الإيمان بوجودها على أرض الواقع، خاصّة حين علمت بأن الفيلم هو سيرة ذاتية حقيقية، مما غمرني بالسعادة. فمودي هي في الحقيقة شخصيّة الفنّانة Maud Lewis رسّامة كنديّة شهيرة عانت من إعاقة في ظهرها ويديها والتهاب مفاصلها المزمن وارتبطت بصيّاد كسر معها كل القيود و حققا بارتباطهما معايير الدعم والحب الصادق والعطاء اللامتناهي لتصبح فنّانة شهيرة. هنا مقطع لطيف يروي حكاية مود لويس وزوجها. لفتني في المقطع عينا زوجها حين يتحدث عنها بعد رحيلها...



هنا بعض رسموات الفنّانة مود لويس التي تركت بداخلي انطباع لطيف عن الطبيعة والريف والحياة والحب العميق الممزوج بالشفافيّة..




في الحقيقة أنا ممتنة لهذا الفيلم، أو بالأصح لهذه التجربة الإنسانيّة الحقيقيّة، قبل أن تكون سينمائيّة، التي تحيي في النفس شيئًا من التذكير بجوهر الارتباط المُخلص، فالبعض منّا قد يضعف أمام معايير زائفة تحقق له كل شيء حول الارتباط عدا الارتباط الداخلي العميق بينه وبين شريكه. أترككم مع أغنية الطائر الصغير هنا (Little Bird) التي تم اختيارها كشارة ختاميّة للفيلم والتي أحببت كلماتها جدًا، مما دفعني لصياغتها بترجمتي الخاصّة...
قلبك يغرّد صفيرًا، كإبريق متأرجح..
وكلماتك تنبعث من الداخل، كما البخار..
والهراء يذوب ويحترق طويلاً.. لتولد الحقيقة في لحظة..
القلب يبدو وكأنّه مرَمّم لكليهما..
فأنت وحيد، كمعبد مهجورٍ من الداخل.. مزدحم من الخارج..
وأنا فارغة كوعود لم تُنجَز بعد..
..
عندما يحين الوقت.. وتُتلى كل الحقائق..
أفكّر بك طويلاً..
ولكن لمرّة واحدة.. أقصد ما قلتُه..
..
كنتُ منكّهة.. لأُشبِعَ لهفتك
الآن ذهبت.. وفقدت شهيتك
فالبلابل الصغيرة .. تفي في القتال.
..
أنا وحيد كذكرى، بالرغم من الجموع حول النار..
ألست كل طائر على كل سلك ممتد؟
..
عندما يحين الوقت.. وتُتلى كل الحقائق..
أفكّر بك طويلاً..
ولكن لمرّة واحدة.. أقصد ما قلتُه..
..
هنا أبقى، كي أستلقيني
في منزل بجانب التل..
فقد انبعثت من تحت ركام الأرض، واقتُطفتُ من الفناء..

تعليقات

  1. جاري إضافة الفلم إلى لستة المشاهدة.

    تلفتني الأعمال الإنسانية التي تشرح وتعرض علاقات الإنسان ونفسه بصورة شفافة وخالية من المبالغات.

    جميعنا نحتاج تذكير إمتنان لأحبابنا، وأتوقع أن العلاقة الزوجية هي أهمها.

    كتبت سابقًا عن المثالية، وأجد تصويرك لها يشابه ما وصفته.

    استمتعت بالقراءة لك يابشرى.

    -لينة، من مدونة ليناد

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً لتواجدك، سعيدة جداً بكلماتك وبأن المحتوى قد حاز إلهامك،
      أنرتي لينة 3>

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني