قراءة في شخصيّة جين إير: الوداعة الجامحة



في ليالي الشتاء القريبة التي مضت كنت أقضي وقت قراءتي في رواية جين إير لشارلوت برونتي بترجمة مذهلة من دار الحرف العربي. تلك الرواية التي أجلتها خصّيصًا لساعات الليالي الطويلة، وكان اختياري موفّقًا حيث حملت تلك الحكاية تفاصيل برد الشتاء وأحاديث المدفئة ورجفة العواطف، فانصبّت أحداثها متناسقة مع الموسم ومعي شخصيًّا. فلطالما توقّفت عن القراءة لأشيد بانجذابي وإعجابي وأحياناً شجوني بدمعات صادقة بفعل النصوص وكيف لها أن تصف شخصيّة جين إير وتفاصيل المكان والزمان والناس بدقّة عالية أشبه ما تكون بمشهد كلاسيكي سينمائي من الطراز الرفيع.

ما دفعني للكتابة هنا بالتحديد ليس الرواية، بل شخصية جين إير ذاتها. فبالرغم من نشأة جين إير في بيئة منغلقة وقاسية إلا أنّها امتلكت في عقلها آفاقاً واسعة من التأمّل والحكمة والحدس نافذ البصيرة والعاطفة الهادئة والصرامة الجامحة. وجدت في شخصيّتها بعض الجوانب المطابقة لشخصيّتي، وعجبت من بعض النصوص التي وجدتني بين سطورها حين تصف النظرة المحايدة للحياة والأشخاص والمشاعر، حتى وإن لم يعش القارئ نفس ظروف بطل الرواية، إلا أنه في الحقيقة قد يتصادف معه في ذات الفلسفة التي يفسّر بها قضايا الحياة ووجدانيات الروح وطبائع الأشخاص من حوله.

الجدير بالذكر هو أنني فضلت الحديث عن شخصيتها بشكل عام بغض النظر عن الجوانب المشابهة أو المخالفة لي. بالطبع ليس بوسع لهذه التدوينة أن تسرد كل تفاصيل تلك الشخصية، لكنني فضلت انتقاء بعض أبرز مراحل حياة جين وكيف واجهتها بجوانب شخصيّتها الرائعة، والتي عنونتها في المقاطع التالية مرفقة باقتباسات من الرواية:

الإيمان بواقعيّة الخيال:

كانت جين تتواجد في مدرسة لوود الداخلية، والتي كانت تعاني فيها من صرامة القيود وقسوة التعامل، في حين أنها كانت في عمر يشع بالحياة والتحليق نحو الآفاق. فأخذت تصارع ذلك الجموح المقيّد بالخيال الواسع. وتكررت تجربتها مع واقعيّة الخيال مرة أخرى أثناء إقامتها في قصر فاره، لكنه يعج بالسكون والبلادة وخلوه من التجارب المثيرة. لتستعين بخيالها مجدّدًا. إننا كأشخاص قد نستخف بفكرة الخيال، وأثره وجدواه على أيّامنا الثقيلة، فالخيال محض فقاعة خفيفة، تهرع للاختفاء في أقرب فرصة لمداهمة الواقع. لكن جين تؤمن بأن للخيال واقعيّة، وبأنّها يمكن أن تعوّض فيه جلّ المشاعر المدفونة والدهشة المفقودة، لكي يتسنى لها الحياة بشكل آخر، بمذاق يليق بشغفها وتطلّعها، حتى يمتزج ذلك الخيال بذكرياتها ومنطقها، وكأنها قد عاشت تلك التجربة التي تمخضت في مخيّلتها لتحيلها إلى حكمة تنتهجها لحادثات المستقبل!

ليلمني من يشاءُ إذا قلت إنني كُنت -إذ ذاك- أتوق إلى قوةِ إبصارٍ تتجاوزُ هذِه الحدود, وتقوى على أن تصلِ إلى العالمِ المصطخِب, والمدنِ والأقاليمِ التي تضج بالحياة, والتي طالما سمِعتُ عنها دون أن تقع عليها عيْناي!, ولكم كنتُ أصبو إلى مزيدٍ من التجارب العملية- فوق ما كان لديّ- وإلى مزيدٍ من مخالطةِ أبناءِ جِنسِي, والتعرف على أخلاقِهِم المُتباينة بقدرٍ يتجاوزُ ما كان يتاح لي في ذلك القصر… كُنتُ مُوقنةً بِوجودِ ألوانٍ أَخرى زاهية من الخيرِ والفضائل.. وكنتُ أرغب دائماً في معاينة ما أؤمنُ بِوجوده! 

وكان الأفضل من ذلِكَ كُلِهِ أن أفتحَ أذنيّ سرِيرتي؛ لأُصيغ السمعَ لقصةٍ لا تنتهِي قطْ. قِصةٌ كان ينسُجُها خيالي، ويرويها بِاستمرارٍ ودونَ انقِطاع, ويبعثُ فيها الحَرَكةَ المثيرة بما كان يضمنها من أحداثٍ, ومن حياةٍ, ومن عاطفةٍ, ومن إحساس.. ومن كل شيءٍ كنت أشتهيه ولا أجده في حياتي الواقعية.


وزن الاختيارات بالمبادئ:

حين غدت جين في ريعان الشباب، التقمتها موجة عاطفيّة هائجة، جعلتها في خضمّ التساؤلات المضنية بين القلب والعقل، لتغرق في بحور من الحيرة والاختيارات الشائكة، والتي سرعان ما تبددت حين أخذت كل ما يثقل كاهلها من قرارات مصيريّة لتدفع بها إلى ميزان المبادئ الصافية، ووجدت حينها طوق النجاة والخلاص المحقق. تلك المبادئ التي لطالما وجدنا في نفوسنا إغفال لها حين تتراقص أمامنا مغريات العواطف، ولا نكاد نسمع نداها في صخب الهوى والرغبات المؤجلة، حتى إذا ما خمدت تلك العاصفة، أنصتنا لصوتها الغائب، والمنادي بالحكمة والأناة والصواب. 
سأعنى بنفسي..وكلما بقيت في عزلة ودون صديق أو عائل، كلما ازددت احترامًا لنفسي وتمسكًا بالشرائع التي استنها الله وأقرّها البشر. نعم، سأتمسّك بالمبادئ التي اعتنقتها وأنا في سلامتي العقلية، لا وأنا مجنونة بانفعالاتي كما أنا الآن، فإن قيمة الشرائع والمبادئ ليست في الأوقات التي تخلو من الإغراء، وإنما هي في مثل هذه اللحظات التي يتمرد فيها الجسم والروح على صرامة تلك المبادئ والشرائع. فهي صارمة حقًّا، ولكنها ستظل مصونة محصّنة.
وإذا كان في وسعي أن أنتهكها لمصلحتي الخاصة، فأية قيمة لها تبقى؟ إن لها قيمتها كما كنت أعتقد دائماً، فإذا كنت قد كففت عن الاعتقاد الآن، فما ذلك إلا لأنني مجنونة.. مجنونة.. وأي جنون بسبب النار التي تجري في شراييني، وبسبب نبضات قلبي التي لم أعد أقوى على ملاحقتها وإحصائها.. لم يبق لي الآن سوى الوقوف بجانب الآراء القديمة والإرادة السابقة، وسوف أتسمّر إليها لا أريم ولا أتحرّك!
التضحية القانعة:

تعود جين لأحد الخيارات التي قد تخلّت عنها في فترة من الزمن، لكنّها تعود بحكمتها ورضاها، لتضحّي لأجل ذلك الخيار بقناعة تامّة. إننا في حال قبولنا بالتضحية، فأجلّ ما يمكننا الإيمان به هو أن تلك التضحية ستزيدنا قيمة لا أن تسلبنا إيّاها، فالتضحية بقناعة قناعة أخرى، تضاف لرصيد بذلنا وعطائنا وإنسانيّتنا. ناهيك عما إذا كان اختيارنا لذلك الأمر شيء من محض الطبيعة بينما يراه الآخرون تضحية! 

تضحية!..بأي شيء أضحي؟ .. أهي تضحية أن أستبدل بالجوع قوتًا، وبالرجاء سعادة واقعة.. أن أحتضن أغلى ما لدي..أن أستند إلى من أطمئن إليه.. أهذه تضحية؟..إذا كانت كذلك، فأنا مسرورة فعلاً بالتضحية!
علمتني جين أن خلف الوداعة لا تكمن الهشاشة والضعف، بل تكمن الصرامة الجامحة، والذات المتعقّلة. علمتني أن حدود الزمان والمكان ليس من شأنها أن تحدّ من فكر الشخص، وأنه بإمكانه أن يوسّع آفاق آماله بالمشاعر والعلاقات الصادقة مع الآخرين والقراءة المثرية والتأمّل العميق والحكمة المتأنّية. ألهمتني أن أعيش الحياة باتزان يحفظ لي الرضا عن النفس وشرف المجازفة، دون تخبّط أعمى يرتدي قناع المغامرة، فكل خطوة في الحياة محسوبة من العمر، والرجوع إلى الخلف ليس تأخّرًا في كل حين، بل هو أساس الخطوة الثابتة نحو تطلعات النفس لخوض غمار الحياة بأقل ضرر ممكن.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

حياة الركض لا تشبهني